تركي بن رشود الشثري ">
ومن منا لا يرنو لمثل هذا العقل، ومن منا لا تحدثه نفسه بيوم يرتاح فيه من التفكير المعقد والغامض بشأن الماضي والمستقبل، بل ومن منا لا يتمنى أن يتعامل مع يومه بواقعية ومرونة وسهولة وهناء، إنها أحلام لذيذة، ومشاعر دافئة تمر بالمرء فينة بعد أخرى عندما يفكر في حب ذاته، والشفقة عليها، وتحسس مواطن الوجع فيها. لقد تراكمت عليه جروح الطفولة، وضربات الزمان، وسمته الشخصية كأن يكون تفصيلياً لحد الوسواس، أو شكاكاً، أو نرجسياً أضناه الكلف بنفسه، وانفض عنه أصحابه مع نقص في الخبرة والثقافة، وها هو يطمح للعيش الهادئ في ظل عقل لا يسيء الظن، ولا يؤرقه الشعور بالنقص، ولا توتره المقارنة الدائمة بالآخرين، ولا ينتظر التصفيق من الجميع له كنجم الحفل، ولا يدقق في الصغائر، ولا يخاف المستقبل ويخشى الفقر!..
الكلمات أعلاه مدخل يسهل استقبال الأسئلة التالية:
- ما مدى المسافة بين قيمك وسلوكك؟
الأخلاق باب من أبواب الحياة، بل هو بابها الأرحب، كيف لا وهو الصمغ الذي تتلاحم أبعاض المجتمع عليه، إذ الناس بلا أخلاق في تعاملهم يصيرون أقرب إلى الوحوش منهم للآدمية، وقد جاءت جميع الشرائع والأديان لتقرر هذه الحقيقة، بل والعقل أيضاً لا يتقبل الاختلاط بين الناس إلا وفق ضوابط الأخلاق التي تكفل ضمان الحقوق النفسية والمادية، وأول من تستعمل معه ذلك وتخالقه به هو نفسك أنت. إن استخدام اللغة الداخلية الراقية مع النفس يهذبها وينميها وينعش كوامنها؛ فتتفجر بالعطاء والخير لكل من حولها، ألم ترَ إلى الذي يحتقر نفسه ويشعر بنقصها ويجلدها دائماً، كيف ينظر لمن حوله وكيف يعاملهم؟
خصوصاً مع أبنائه وما تفرع منه، إنه يحتقرهم ويغذيهم بالكلمات الموجعة ليلاً ونهاراً، إنه إناء وهذا نضحه، لقد آن الآوان أن تحترم نفسك، وتدللها، وتعاملها بأروع ما توصلت إليه من رفيع الأخلاق، وخالص الذوق، إنها تستحق منك ذلك، فكم صحبتك، وكم صبرت عليك، ثم اعلم أن السلوك هو المحتوى الذي تملأ به قوالبك القيمية؛ فالمبدأ والقيمة يعبران عن الخواء والصفير إذا لم يقارنهما السلوك. لقد عرَّضت ضميرك للتأنيب المتصل، وعرَّضت شخصك للنقد الخفي فيما بين الناس لما اعتنقت القيم والمبادئ وجاهرت بها، بل ودعوت إليها قبل أن تكون أنت تمثيلاً قائماً لهذه المبادئ وتلك القيم، ولن يهدأ لك بال ولن يقر لك قرار مالم تكن كذلك.
- ما مدى حبك لنفسك؟
إن الجلد طويل المدى للذات يورثك نفساً مهزوزة ضعيفة. إن التأنيب الحاد للضمير لا يعطيك النتائج المرجوة، بل العكس من ذلك، فإنك تصل للحال التي تخشى أن تكون عليها، ويتكوَّن ذلك بمر السنين، وعليه فلا بدَّ لك من التعرف على ذاتك على وجه الخصوص، ما تحب وما تكره، ما يلائمها وما لا يلائمها، وتتخلص من الأمعية الفكرية، والبدنية، والروحية، وتكف عن محاولة تقمص شخصيات من ترى فيه القدوة، حذو القذة بالقذة، فهذا خَلْقٌ آخر أعطاه الله من الاستعدادات، والقوى، والخبرات، والمواقف ما أدى إلى صقل شخصيته التي تراها أمامك، فهذا القدوة أو ذاك هو عبارة عن منجز ونتيجة وعصارة لما مرّ ذكره مما لم تعطاه، ولم يمر عليك مع مراعاة فارق السن أيضاً؛ فالغالب أن القدوة سيكبرك بسنوات، هذه السنوات لها حساب، ولها دور في نضج الشخصية، وويل لك إن جعلت هذا القدوة العظيم في نظرك مقياساً لنجاحك، وتوافقك مع ذاتك؛ لأنك لن تنجح، ولن تصل إلى التوافق مع ذاتك لماذا؟
لأنك تسعى وتجهد في التوافق مع ذات قدوتك لا مع ذاتك أنت، وقد مرّ في الأسطر السابقة أنَّ هناك فروقاً بينكما في التكوين، وظروف الجيل والقُدَر الذاتية، وغيرها إذن القدوة شمعة تضيء طريقك للانطلاق، فلا تتحول إلى قاعدة للشمعة تتقاطر عليها السوائل الساخنة في اجترار لآلام الفشل والإخفاق المستمرين.
هذا فيما يتصل بالمعنى، أما الجسد فبسلامته يسلم العقل، وتسلم النفس، وإن سألت عن القلب، فإنه قد يسلم من الشبهات، والشهوات، والجسم عليل، والخلاصة أن الرياضة وتمرين العضلات هو الحق الذي للجسم والذي يتعلل بضيق الوقت فما باله يصرف الأوقات في تبخيس هذا الجسم، وأذيته، والنيل منه؛ فالإنسان الذي يشعر بالنقص، والذي تعرَّض لأحداث مؤلمة في طفولته تنتابه مشاعر بتزعزع الثقة، وكراهية الذات؛ فيسعى في تعذيب هذه الذات من حيث لا يشعر من خلال إنكار حق الجسم، وعن طريق سوء التغذية، وإهمال العناية بالأسنان، والسهر المبرح، والإدمان على كل ما من شأنه تدسية هذا الجسم واحتقاره كالمخدرات، أو المواد الإباحية، أو غيرها، فكم تستغرقه أوقات هذه الدوامات السلبية اليومية، مع أن الأسبوع يحوي (168) ساعة، والمطلوب لممارسة الرياضة (4) ساعات فقط بواقع أربعة أيام، لكل يوم ساعة من (168) ساعة، والمسألة لا تحتاج إرادة قوية، فهي أي الإرادة تحضر، وتغيب، وتقوى، وتضعف، بينما التوجه الفكري ثابت لا يتزعزع مهما ضعفت النفس، وهل الآفة إلا النفس وضعفها، فإكسير تجاوز هذا الضعف هو التوجهات الفكرية السليمة لا المعلومات الكثيرة حول فوائد الممارسات الصحية، ولا ما يسمى بالإرادة القوية.
- ما مدى توافقك المهني؟
يعتبر ضرباً من الانتحار قضاء نصف اليوم في وظيفة لا تحبها، لماذا؟
لأن معنى ذلك ضمور الفاعلية والشغف، وهما وقود الطاقة، والمرء بلا طاقة في هذا الزمان المرهق عرضة لنوبات التوعك الصحي والنفسي، ويالسعادة من يستيقظ صباحاً بنفس مفتوحة، وقلب يتقد حماساً لما هو بصدده من العمل، والإنجاز، ورؤية الأشياء المحببة إليه تنمو بين يديه يوماً بعد يوم، أوجد في بيئتك العملية ما تحب، ولا تزهد في الرتوش إن كنت تعدها كذلك من اللوحات الفنية، وأصص الزهور والفواحات العطرية بمكتبك الذي تقضي فيه الساعات الطوال، مع الالتفات لما هو أهم من ذلك من البحث الجاد عن أي دورة، ومهمة، ومجال، وفرصة تتيحه هذه الوظيفة مما يحرك فيك الأمل، ويحيي فيك جذوة العمل، وإلا فاعمل جاداً للبحث عن وظيفة أخرى ومكان آخر تجد فيه قلبك، وما تبقى من عقلك؛ لتحقق القدر الملائم من التوافق المهني، والذي هو شرط من شروط الارتياح الوجودي، والحضور المتجدد.