يوسف المحيميد
كأنما تنبأ وفيق شامي، الروائي الألماني من أصل سوري، بما ستؤول إليه أمور وطنه الأصل باكرًا، وهاجر إلى ألمانيا؛ كي يكتشف ذاته، ويحمي إنسانيته من القمع والفوضى، بل ويكتشف ذاته، ليصبح من الروائيين الألمان المرموقين، الذين يحظون بقاعدة قراء جيدة، لم يكن سيحصل عليها لو كان يكتب بالعربية! وربما إزاء شعوره بخيانة لغته الأم، بات ينهل من كنوزها عالماً روائياً فذاً، ها هو يكتب عن ابن مقلة، أبو علي محمد علي بن حسن بن مقلة، المولود في بغداد 272 هـ، الموافق 886م، الذي يعتبر أهم خطاط عربي عرفه التاريخ، ليس لأنَّ خطه جميل فحسب، ولا لأنه طوَّر وحسَّن خطي النسخ والثلث، أكثر الخطوط العربية استخداماً، وإنما لأنه أسس القواعد العلمية لهما، بوضعه لمقاييس الحروف، وأبعادها، وضبطها بشكل جيد. في رواية وفيق شامي «قرعة جرس لكائن جميل» المترجمة من الألمانية إلى العربية، الصادرة عن منشورات الجمل، يكشف للقارئ الغربي، وربما للعربي أيضاً، القيمة الكبيرة لفنان عربي وضع أصول الخط العربي، وحلم بأن يوسع نطاق الخط العربي ليتقاطع مع اللغات الأخرى، بابتكار أبجدية عربية جديدة، يمكن من خلالها نطق الأحرف والأصوات لمختلف اللغات السائدة آنذاك، لكنه جاء للأسف في نهايات الدولة العباسية، التي كانت تضاهي أقوى حضارات العالم، فيكفي أنها كانت عاصمة الخلافة، بغداد لوحدها تزخر بمكتبات تفوق مكتبات العالم آنذاك، وتنتج من الورق والكتب ما يضاهي ما تنتجه أوروبا كلها! هذا الخطاط العظيم الذي قال عنه التوحيدي: «قيل لابن الزنجي، ماذا تقول في خط ابن مقلة؟ قال: ذاك نبي فيه، أفرغ الخط في يده كما أوحى إلى النحل في تسديس بيوته»، هذا الذي أضاف أربع قواعد على قواعد الحروف، وهي «حسن الوضع»: الترصيف، والتأليف، والتسطير، والتنصيل. ووضع قواعد لبدايات الحروف ونهاياتها، وفي علل المدّات، وأنواع الأحبار، وفي أصناف بري القلم وغيرها مما يؤخذ به حتى اليوم، هذا الخطاط الاستثنائي لم يعش كما روى عنه التاريخ بأنه صار وزيراً ثلاث مرات، وأنه وغيره من الخطاطين مقربون من الخلفاء والسلاطين، ومجالستهم، على خلاف الخطاطين المعاصرين الذين لا يهتم بهم أحد، كما يعبرون ويشتكون دائماً، فابن مقلة كما قرَّبه ثلاثة خلفاء، وأسندوا له الوزارة ثلاث مرات، عوقب مراراً؛ بسبب أفكاره، التي تقول بأنَّ الخط ليس هبة إلهية، كما كان سائدًا لدى علماء الدولة العباسية، وإنما هو فعلاليد البشرية التي تنجزه وتبدعه، مما أثار هؤلاء ضده، والضغط على آخر الخلفاء، وهو الراضي بالله، وتهديده بالانقلاب عليه في حال وافق على تغيير ابن مقلة للخط العربي السائد، فقبل باتهام ابن مقلة بالتآمر، فاعتُقل، وعُذِّب، وحُرق قصره، ثم قُطِعت يده اليمنى، كما هو معروف، وبعدما ندم الخليفة وأطلق سراحه، أسَّس «ابن مقلة» أول مدرسة للخط، ليهب علمه للشباب، وتستمر مشاريعه الإبداعية التطويرية من خلالهم، لكن هؤلاء المتربصين عادوا واعتقلوه، ليموت عام 328 هـ الموافق940م. هكذا كانت تجربة حياة ثرية لخطاط عربي عظيم، نُقلت عبر رواية بالألمانية إلى العالم، تثبث أنَّ الخط العربي ليس حبرًا وقصبة، وإنما هو فكر وموقف، تتطلب موهبة، ووعي، وشجاعة، يندر أن تتوفر في خطاطي هذا الزمان، الذين أتمنى أن تتاح لهم فرصة الاطلاع على آثار ابن مقلة، وهما رسالتان: ميزان الخط، ورسالة في علم الخط والقلم!