د.خالد بن صالح المنيف
في قصة عجيبة ومشهد أخَّاذ ازدان بالعبر وطرز بالفوائد حكى لنا القرآن الكريم قصة النملة مع نبي الله سليمان -رضي الله عنه- في سورة سميت بـ(النمل) وما ذاك إلا لرفعة قدر هذا المخلوق وعظم شأنه يقول تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا} ...الآية.
منظومة من القوانين البديعة وجمعٌ من الغرائب المدهشة وكمٌ من الفوائد العجيبة فاضت بها تلك القصة. وإليك عشرة من القوانين الرائعة المستخلصة من تلك القصة:
1 - قانون (المصلحة العامة): حيث إن النملة عممت خطابها للجميع وأخذت في الاعتبار مصلحة الجماعة ولم يقتصر على من حولها أو عشيرتها الأقربين، ولا يستبعد أن يكون ثمة خلافات بينها وبين الآخرين، ومع هذا فلم تخص بالتحذير المقربين منها ولم تشمل بخطابها من حولها من النمل، ولكنها تجاوزت ما هو أكثر من ذلك بنداء عام لجميع النمل {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ}.
2 - قانون (الثقة بالنفس): فلم تقلل من شأنها ولم تحتقر ذاتها ولم تحدث نفسها أنها أقل من أن تنادي في النمل، بل انبرت للمهمة وقامت بتوجيه الخطاب للجميع ورأت أن عليها واجبًا يجب أن تقوم به، فقامت به دون هيبة أو وجل.
3 - قانون (المسؤولية): ما كان هذا التصرف الرائع لولا وجود درجة عالية من الإحساس بالمسؤولية التي استشعرتها تلك النملة ويظهر أن تلك النملة ليست ذات منصب وربما كانت في أدنى الهرم التنظيمي في مملكة النمل، ومع هذا تصرفت وكأنها المسؤول الأول عن قومها.
4 - (قانون المبادرة): وتمثل هذا في نهوضها بالأمر والقيام بواجبها دون انتظار الآخرين أو حتى أخذ الإذن, فالوضع غاية في الحرج ولا يحتمل التأخير.
5 - قانون (الإنجاز): فإذا كانت المبادرة هي التفاعل والتأهب والإقدام على فكرة أو الاستعداد لأداء مهمة، فإن الإنجاز هو الانتهاء بتلك المهمة إلى دائرة العمل والتنفيذ والتمام، وكلاهما (المبادرة والإنجاز) محورا النجاح وهو ما فعلته النملة تمامًا، فبادرت وأنجزت.
6 - قانون (تقديم الحلول): على الرغم من أن الأمر قد فاجأها غفلة وباغتها من حيث لا تحتسب فلم تكتفِ بالصياح والنواح بل أضافت إلى التحذير والتنبيه تقديم حل مناسب بذهن حاد ودقيق فهم، فالوضع جدًّا حرج، فأشارت بالحل المناسب دون تردد (ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ).
7 - قانون (استشراف المستقبل): حيث التركيز التام والقدرة على تحليل المواقف وقراءة الأحداث والتأمل في العواقب، وقد أتى هذا في قولها: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ} فبقاؤكم في أماكنكم وعدم التحرك السريع يعني فناؤكم، وبالمناسبة فقد حار العلماء في كلمة {يَحْطِمَنَّكُمْ}.. فكيف يتحطم ذلك المخلوق الصغير وما يعلم منه أنه خلق من مادة لا تتحطم؟! حتى جاء أحد العلماء الأستراليين الذي أجرى بحوثًا طويلة على النمل، ليكتشف ما لا يتوقع! فقد وجد أن النمل يحتوي على نسبة كبيرة من مادة الزجاج، ولذلك ورد اللفظ المناسب في مكانه المناسب.
8 - قانون (اليقظة) فغفوة أو غفلة صغيرة من أحد أفراد المجتمع قد يترتب عليها هلاك كامل ودمار ماحق لكافة أفراد المجتمع، ولربما انتباهه تحمي المجتمع وتصد عنه شرًا عظيمًا, ومن ثم فإن من دواعي الإتقان والانضباطية أن يكون كل فرد في قيامه بالدور المنوط به على أعلى درجة من درجات اليقظة والانتباه، فهو إنما يقف على ثغر من الثغور، ولا يجب أن تؤتى الأمة من قبله.
9 - قانون (الاعتذار): وفي هذا الموقف قدَّمت النملة درسًا مجانيًا لهؤلاء الذين يداهمون النوايا ويخترقون القلوب ويتهمون الضمائر، وقد امتهنوا سوء الظن والقذف بالغيب، وقد أتى هذا المعنى الجميل في قولها: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}، فقد أكملت ما جاء قبله لرفع التوهم وهو ما يسمى عند أهل البلاغة (الاحتراس) وذلك من نسبة الطغيان والظلم لنبي الله سليمان.
10 - قانون (الابتسامة): ما أروع الابتسامة إذا أتت من القوي للضعيف ومن الكبير للصغير ومن الحاكم للمحكوم في وقت الكرب وساعة الأزمات ولحظات الهول، وكذلك كانت ابتسامة نبي الله سليمان للنملة ابتسامة تفيض عطفًا وحنانًا وتترجم الإعجاب من جميل التصرف وتخفف من شدة الموقف وتعيد الأمن والسلام والسكينة داخل النفوس.
ومضة قلم
السفن العظيمة آمنة في مراسيها لكنها لم تخلق لذلك!