د.خالد بن صالح المنيف
في مرتفعاتِ الألب تنظَّم هناك رحلاتٌ لاعتلاء القمم، وهي رحلاتٌ يغلب عليها الطابع الترفيهي، ولكنها تعتبر إضافةً كبيرةً وإنجازًا مثيرًا لمن يستطيع الوصولَ لتلك القمم، والعجيب أنَّ أغلب من يبدأ في تلك الرحلة لا يكملها، فما السبب يا ترى؟ يقول أحد المرشدين السياحيين: «بعد ما يقطع المتسلِّقون نصف المسافة يتوقَّفون في استراحة يستردُّون فيها النَّفَس، ويأكلون بعد ما أنهكهم البرد واستنزف طاقتهم، ومدة جلوسهم فيها محددة بوقت ومن ثم مواصلة رحلة الصعود، والغريب أنه لا ينهض لإكمال المهمة إلاَّ مجموعة قليلة، وأما البقية فيؤثرون الدفءَ والأنس والراحة فيبقون في المطعم، وبينما يكمل الآخرون رحلة الصعود الشاقة يتسامر هؤلاء ويحتسون ما راق لهم من مشروب ويقطعون الوقت في الضحك والأحاديث المسلية».
وتتمثل اللحظة الحاسمة عندما تؤذن الشمس بالرحيل وتبدأ العتمة تهبط على الكون الفسيح ويقبل عليهم الليل يكنسُ بقايا نجومهِ، ويجرُّ رداءهُ عاريًا فيجتمع هؤلاء عند النوافذ المطلَّة على هاتيك المرتفعات يزفون الأبطال لمواصلة المسير وليتركوا بصمتهم، وفي تلك اللحظة يخيِّم الصمت على المكان ويعمُّ الهدوء، وحال أصحاب النافذة كما وصف (الزيات): «كالصوتِ الأصمِّ لا يُرجِّعهُ صدىً، وكالروحِ الحائرة لا يُقرّهُ هُدىً، وكالمعنى المُبهمِ لا يُحدِّدهُ خاطرٌ».
إنها اللحظة الحاسمة التي يشعر فيها هؤلاء بالندم على إضاعتهم للفرصة النادرة.
أَمَرْتُهُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى
فَلَمْ يَسْتَبْيِنُوا الرُّشْدَ إلا ضُحَى الْغَدِ!
والآن فقط واجهوا الحقيقة المرة، فهذا المكان الفريد غالبًا لا يُزار في العمر إلاَّ مرة واحدة، ولحظات المتعة التي قضيت في الأكل والشرب والضحك غدت كالطللِ البالي، صارت أثرًا بعدَ عينٍ، واستحالت من بقايا الذكرى التي تُطوى ولا تُروى وذهبت كطيف عابر، وحالهم بعد ذهاب السكرة غمًّا بَاكيًا أَوْ مُطْرِقًا أَوْ ضَارِبًا بِرَأْسه عَلَى صَدْره أَوْ مُنْطَوِيًا عَلَى نَفْسه.
أما الفريق الذي اجتهد وتغلَّب على مرغوباته، فقد بنى لنفسه مصدرًا دائمًا للثقة والسمعة الطيبة والمشاعر الإيجابية بإنجازه للمهمة!
وهذا المشهد يتكرر في الحياة كثيرًا؛ فمن يؤثر الراحة واللعب سوف ينظر بنفس النظرة لمن يتفرغ للدراسة ويبذل جهده ويفوز بالدرجات الكبيرة، ونفس النظرة سينظرها من يعب من الطعام دون ضابط لذلك الشخص الذي أمضى أسابيع في حمية فكسب الصحة والرشاقة، ويتكرر المشهد ولكن بمشاعر ندم محرقة يوم القيامة، فتتفجَّر براكينُ الحزنِ في قلب الكافر، وتجيش غوارب صدره وهو يرى الفائزين ولن يتمالكْ نفسهُ وسيبكي بكاءَ الطفلِ وينشُجُ نشيجَ الثكلى الوالهِ، فيصرخ هو ومن على شاكلته في مشهد جماعي: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
أيها العزيز، ليكن هدفك في الحياة الجوائز السنية والغايات العظيمة والقمم العالية، واحرص دومًا على أن تصنع لنفسك مصدرًا مستديمًا ثابتًا للدعم الإيجابي وللمشاعر الجميلة، وهذا لا يكون بالوقوع في الأشياء التي غايتها (الإرواء اللحظي) وما تحتاجه هو أن تتخذ خطوة إيجابية بسيطة إلى الأمام ومن ثم تتسلّح بتلك الصفة العظيمة التي يهزم صاحبها كل الخصوم ويتجاوز معها أعتى العقبات، ويُمنح الثقة.
إنها (الإصرار)، فالناس يثقون بالإنسان الذي يملك الإصرار؛ لأنهم يعرفون أنه عندما يتولَّى أمرًا فإنَّ المعركة تكون شبه محسومة لصالحه، وأنت -أيها البطل- لن تحسم المعركة لصالحك وتنتصر ما لم تتسلح بالإصرار مفضلاً الجوائز العظيمة على الربح الخسيس!
ومضة قلم
«البحر الهادئ لا يصنع بحَّارًا ماهرًا أبدًا»