إبراهيم عبدالله العمار
مهما بلغ الإنسان من العلم سيظل المخ أحد أعظم الألغاز الماثلة أمامنا. هذا الصندوق يحوي من الغرائب ما لا يُحصَر، وأحياناً كلما زدنا به علماً زدنا حيرة! أحد الأشياء التي أظهرها العلم الحديث ظاهرة عقلية موجودة عند كل البشر وهي الذكرى الزائفة.
هذه من الأشياء التي ذكرها كتاب «اللاوعي» للعالم لينرد ملادينو، وهو كتاب أخذ أحدث الدراسات والأدلة العلمية ليُظهر عمليات وظواهر كثيرة تحصل في عقلك اللاواعي، تؤثر على قراراتك ومشاعرك وحياتك وأنت لا تدري، ومن هذه الأشياء شيء يسمى الذكرى الزائفة.
ما هي؟ إنها ذكرى تَشعر كأنها حقيقية .. لكنها وهمية. هذه لا تختلف عن الذكرى الحقيقية في نظر المخ. والشيء المقلق: من السهل غرس ذكرى زائفة في عقلك! هذه جربها الباحثون كثيراً، وانظر للتجربة التالية التي أدهشتني: تطوّعَ 20 شخصاً ليكونوا جزءاً من تجربة، هؤلاء لم يركبوا أبداً بالون الهواء الساخن. أخذ العالم – القائم على التجربة – بعض صور الطفولة للمتطوع من عائلته (بدون علمه) وتلاعب بها بحيث تُظهر الشخص يركب بالوناً ساخناً، وقدّمَ لكل متطوع مجموعة من صور طفولته، بعضها حقيقي وبعضها متلاعب بها، وطلب العالم من الشخص أن يتذكر كل ما يمكن عن تلك الصور وأحداثها، وإذا لم يستطع طلب منه إغماض عينيه وتخيّل نفسه كما هو في الصورة. تكررت هذه التجربة مرتين أُخريين على مدى أسبوع، وبعد أن انتهت كانت النتيجة أن نصف الناس سردوا ذكرى طفولتهم في البالون الساخن! بل البعض تذكّرَ تفاصيل ومشاعر! أحدهم قال لما أخبروه أن الصورة مزيفة وأنه لم يركب بالوناً في طفولته: «لا زلت أتذكر في عقلي أني هناك، وتتراءى لي بعض ملامح ذاك اليوم». هذه ليست خاصة بهؤلاء الناس: إنها ستحدث لأي شخص، لي ولك.
الذكريات الزائفة والمعلومات المضللة سهل زرعها لدرجة أنها زُرِعت في عقول رضّع أبناء 3 أشهر، وكذلك في عقول الغوريلا، والحمام، والجرذان. إننا معرضون بشدة للذكريات الزائفة لدرجة أنه يمكن أحياناً زرعها في عقلك فقط بمجرد أن يقول الشخص بلامبالاة إن الحدث الفلاني حصل لك (وهو لم يحصل). بعد فترة فإنك تبدأ «تتذكر» الحادثة وتنسى مصدرها (أي الزارع)، وستَخلط الذكرى الزائفة مع ذكريات حقيقية. عندما يستخدم الأطباء النفسيون هذا الأسلوب كتجربة فهم ينجحون بنسب تصل إلى 50% من الناس.
مثال على هذه التجربة: طُلِب من ناس ذهبوا لعالم ديزني قراءة منشور دعائي، وفي هذه الدعاية أتى نص يقول: «تخيل كيف شعرتَ لما رأيتَ الأرنب الشهير بَغْز بَني لأول مرة بعينيك عن قرب، وأمك تدفعك باتجاهه لتصافحه. لم تحتجْ من يدفعك، فأنت كنت ترغب في هذا، وكلما اقتربتَ منه بدا أكبر حجماً. خطرَ في بالك أنه لا يبدو كبيراً هكذا في التلفاز! ثم استوعبتَ ما يحصل: إنه بغز بني! الشخصية التي عشقتها في التلفاز، يبعد فقط أمتاراً قليلة! ينبض قلبك بقوة، تتعرق كفاك....» إلخ. يستمر النص الدعائي بهذا الوصف الدقيق. ما النتيجة؟ أكثر من ربع الناس «تذكروا» أنهم التقوا بالأرنب بغز بني في ديزني لاند! ومن هؤلاء قال الثلثان إنهم صافحوه، وقال قرابة النصف أنهم عانقوه، وأحدهم قال إن الأرنب كان يحمل جزرة. طبعاً بغز بني شخصية تملكها شركة وورنر برذرز ولا علاقة لها بشركة ديزني، فمن المستحيل أن هذا حدث!
كلما كُرِّرت التجربة على أناس عشوائيين في كل أنحاء العالم تنجح، وذكريات مزيفة كثيرة وُضِعت في عقول البشر، منها: ضياعهم في السوق كأطفال، حارس الإنقاذ في المسبح ينقذهم من الغرق، ينجون من هجمة حيوان مفترس، تُطبِق مصيدة فئران على الأصبع، يسكب الشخص مشروباً على الحضور في حفل زفاف، ينام في المستشفى بسبب حرارة مرتفعة. كل هذه لم تحصل للناس هؤلاء لكنها زُرِعت في عقولهم كما في الطرق بالأعلى.
كيف ستقاوم من سيستخدم عقلك...ضدك؟