د.ثريا العريض
منطقة الشرق الأوسط منطقة ثرية بالتنوع الثقافي من حيث تداخل مكوناتها إثنيًا ولغويًا ودينيًا ومذهبيًا وعطاءً تراثيًا. وكأنه جوقة تتداخل فيها ألحان الوجود، كلها أوتار يمكن أن تصدر بالانسجام والتنسيق موسيقى تطرب لها الأرواح وتستريح الإنسانية في الجوار.. أو أن تصبح تنافسًا بين الأصوات للهيمنة، فتصبح حالة إزعاج كوني قاتلاً يشل حس تذوق جماليات الحياة المشتركة.. حيث كل يبحث عن إغراق صوت الآخر، وإقصائه عن إضافة مذاقه الخاص في نسق متكامل.
ودول الخليج العربي تملك من التشابه في الجذور واللغة والموروث الثقافي والتاريخي والعلاقات العائلية ما مكنها من تكوين شبكة جوار متعايش، يتفق على رأب خلافاته بحوار حضاري، وتأمين استدامة منجزاته بالتنسيق والتعاون الذي لا يفقد الأعضاء مسؤولية القيادة الفردية لمواطنيها، في ذات الوقت الذي يبني تداعم الجهود الجمعية لحماية الجوار وخدمة مصالحه المشتركة. بل هي تحقق خطى إيجابية للوصول إلى ما هو أبعد من التعاون، أي مرحلة التكامل البنّاء، للوصول بكل مواطنيها إلى الرضى والاستقرار والأمن وإنجاز المزيد من البناء والارتقاء.
ولكن دول مجلس التعاون الخليجي لا تعمل في فراغ، فهي حلقة ضمن مرحلة حضارية في امتداد جغرافي وتاريخي، لها جذور علاقات أسبق مع محيطها الأوسع في منطقة الشرق الأوسط الممتدة من آسيا إلى شمال إفريقيا وغربها حتى المحيط. ولها علاقات مع أوروبا منذ عصور الظلام العلمي هناك حتى عصور الاعتام الاستعماري هنا. وصلنا الحاضر عبر الكثير من التجارب المشتركة في بناء حضارة إنسانية علمية وتكامل روحاني، وأيضًا صراعات ثقافية وسياسية بين إيديولوجيات حادة الاختلاف إيجابيًا وسلبيًا، بين فكر العقل والانفتاح والتلاقح، وفكر الإقصاء والانغلاق والاعتداء. وعند خطوط التماس أنتجت علاقات تجاذبية طردية، تفاوتت بين إعمار واستعمار واستغلال وتنفير وحروب دينية وتكفير وتدمير وتحالفات للهيمنة على موارد المنطقة الطبيعية والبشرية. وما زلنا في المنطقة نعيش تداعيات الحرب العالمية الثانية. فمن زرع إسرائيل كشوكة سامة تسعى لتنداح بمخطط خريطة تلغي ما قبلها، إلى تشوهات تحول ثورات التحرر من الاستعمار وتأميم الموارد بمنطلق القومية والبعثية إلى أنظمة استبداد قمعي، استبدلت الحكم الفردي التقليدي بدكتاتورية عسكرية، إلى التحركات المتسلقة على الدين، كثورة الخميني، وحركة جهيمان، وشبكة الإخوان المسلمين، والقاعدة، وطالبان، ظل رجل الشارع يحلم بالخلاص ويفيق على كوابيس. آخرها أحلام الربيع العربي الذي تضافرت فيها تطلعات الإنسان إلى منظومة أعدل، ثم تكشف واقع ناتج الفوضى الخلاقة عن كوابيس دمرت جزءًا كبيرًا من الدول، وقضت على سلطة القانون، وقوى الدفاع، وحولت المدن وتراث إرثها الحضاري العريق إلى ركام، ومواطنيها إلى محاصرين جائعين أو هاربين من الدمار لاجئين عبر غدر البحار.
أسوء إيديولوجيات هي تلك التي تسعى لبناء «امبراطورية» ما تحت مبرر مختلق يتظاهر بفكر يدعي سموا مثالي الرغبة في «إنقاذ» العالم، أو فئة منه، عبر تجريم أو تهميش أو تكفير الفئات الأخرى. فكر فئوي قد يكون عقديًا دينيًا، أو طائفيًا مذهبيًا، أو إقصائيًا عنصريًا، أو تهميشًا إثنيًا، أو طموح فرد مستبد يحول حلمه بالسيطرة، إلى كابوس للمجموع أو فئة منه. وقد يجد قوى خارجية توظف انحرافاته لتحقيق مآربها الخاصة؛ أو حتى تستغل قصور وضعف الوعي العام لتختلق كيانًا مثل داعش ينادي بتأسيس «خلافة إسلامية»، بينما لا تشي تصرفاته الإرهابية إلا باستغلال المسمى لتجنيد البسطاء، وتجميع المنحرفين والغاضبين من أبعد الأصقاع، لتنفيذ مخططاتها لسرقة المقدرات وممارسة التنكيل والتعذيب والانحراف الجنسي، تحت تفسير ديني.
وإذا كانت داعش تستخدم خليطًا فانتازيًا وسيناريوهات هووليودية براياتهم وإيديولوجيتهم السوداء، تغزو المدن لسلب المال، وسفك الدماء، وسبي النساء، فإن محاولات إيران تصدير «الثورة» للجوار كله: العراق ولبنان وسوريا واليمن ودول الخليج بتأجيج الطائفة الشيعية فيه لموالاة إيران، مثال لا يقل سوءًا يسخر الإيديولوجية لبناء امبراطورية جامعة قامعة. ويخفي الفوقية الفارسية بلباس مذهبي، وهي في الواقع الدافع الأصل لرغبة تأسيس امبراطورية تهمش فيها كل الإثنيات الأخرى.
حمى الله جوارنا من أطماعهم وكوابيس تحققها.