د. عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
سؤال دائماً ما يتردد حول مدى فاعلية أنظمة ومؤسسات التعليم العالي في السعودية لتدعيم الصلات بين التعليم العالي وسوق العمل. وإن كان هناك عدد من المسلَّمات، الجميع يؤمن بها، من أن المهارات تعد عاملاً أساسياً للمشاركة في قوة العمل، التي تعد عاملاً أساسياً لتعزيز إنتاجية العمالة التي تنضم إلى سوق العمل في ظل اختفاء الوظائف المشتملة على مهام روتينية؛ بسبب أن الوظائف الجديدة تتطلب مهارات غير روتينية،
مثل المهارات التحليلية، الإبداعية والمتعلقة بمهارات التواصل، التي لا يزال البشر يجيدونها عن الآلات؛ بسبب تأثير الوسائل التكنولوجية سريعة الظهور، والمرتبطة غالباً بتكنولوجيا المعلومات والاتصال.
لكن كثيراً من أنظمة التعليم لدينا تجد صعوبة في إعداد الشباب لهذا العالم الجديد؛ بسبب أنه لا يزال يتسم في الغالب بالتلقين والتكرار، بدلاً من التركيز بأعمال العقل والتركيز على مهارات، وإن كان يمثل مشكلة في التعليم العام، لكنه أيضاً يمثل مشكلة في التعليم العالي، التي باتت تشكل قيداً على النمو الاقتصادي؛ باعتبار أن التعليم العالي محركاً قوياً لبناء مجتمع تنموي.
يجب أن تتفاعل المؤسسات التعليمية بعضها مع بعض، ومع أصحاب القطاع الخاص والمؤسسات البحثية، وهي روابط مهمة، انعدامها يجعل الجامعات غير قادرة على الارتقاء إلى مستوى إمكاناتها. وكما يقول المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي «إن الغباء المؤسسي هائل، ويضع الجنس البشري في خطر، ويعتبر غباء الفرد ميئوس منه، لكن الغباء المؤسسي هو أكثر بكثير في مقاومة التغيير».
رغم التحاق 12 مليون طالب أمريكي بالتعليم بعد الثانوي فإن الكليات لا تشكل في مجموعها سوقاً واحدة متماسكة، ويعد التعليم العالي من الأعمال التجارية الرائعة والمعقدة في الوقت ذاته. ورغم أن ديناميكية التسعير الخاصة بالتعليم هي التي تحدد في واقع الأمر من يناله الازدهار ومن يناله الإخفاق لكن يبقى المنتج النهائي لا يعتبر هدفاً في حد ذاته.
ارتفاع تكاليف الدراسة في التعليم الجامعي يُعد من التحديات الشخصية، ولكن الأزمة الوطنية الكبرى تكمن في حقيقة مفادها أن جانباً كبيراً للغاية من الشباب لا يذهبون للجامعات بالأساس، وإذا التحقوا بها فإنهم لا يتخرجون فيها؛ ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى ارتفاع التكاليف التي تصل إلى 10.300 دولار في الجامعة الخاصة، لكنه يقل في الجامعة الحكومية إلى 2500 دولار في العام.
ينقسم التعليم العالي في الولايات المتحدة إلى ثلاث أسواق متمايزة للتعليم العالي، التي تتميز فيها العروض والعملاء والأعمال بدرجات جيدة من التفاعل والتداخل. إحدى تلك الأسواق تضم 200 من الكليات الانتقائية العالية ذات السمعة الممتازة محلياً ودولياً، وتشتمل على أكثر الكليات النخبوية بالولايات المتحدة. وتلك الكليات تقبل ما بين 2 إلى 10 في المائة من طلاب التعليم كافة ما بعد الثانوي، وهي تظهر مجتمعة السمات كافة المميزة للسوق التنافسية التي تعمل بصورة جيدة، وهم يتنافسون مع بعضهم بعضاً لاجتذاب أفضل الطلاب في الداخل والخارج.
السوق التعليمية الثانية تستوعب 20 في المائة من مجموع الطلاب بالتعليم العالي. وتلك الجامعات حكومية، ولكنها تتمتع بسمعة جيدة. وهناك الجامعات الحكومية غير الانتقائية، وهي الكليات الأهلية والخاصة الهادفة للربح، تقبل كل طالب قادر على السداد، وهي جامعات تختلف اختلافاً كبيراً فيما بينها من حيث الجودة. وهي تركز على إعطاء الطالب وظائف مهارية في مجال التصنيع، والرعايا الصحية، وغيرها من المجالات، لكن أكثر من نصف الطلاب الملتحقين بكليات السنوات الأربع في ذلك القطاع من التعليم لا ينتهون من تعليمهم الجامعي.
وبنظرة سريعة على واقع التعليم في السعودية فقد تخرج 106487 خريجاً وخريجة لعام 1433/ 1434، ونحو 48 في المائة من إجمالي خريجي الجامعات الحكومية والأهلية لمرحلة البكالوريوس كانوا من ثلاثة برامج دراسية نظرية، هي الدراسات الإنسانية والأعمال التجارية والدراسات الإسلامية، ونحو 89 في المائة من خريجي مرحلة البكالوريوس من تخصصات القطاعات الخدمية، وأن خريجي التخصصات من القطاعات الإنتاجية يمثلون 11 في المائة فقط.
هناك تصريحات من مسؤولين بأن 55 في المائة من الطالبات و33 في المائة من طلاب الجامعات يدرسون تخصصات لا يحتاج إليها سوق العمل، و58 في المائة من الخريجين إناث، السوق غير مهيأ لاستيعابهم، و7 في المائة تخصصات إنتاجية فقط.
لذلك فالتعليم العالي الحالي لا يخدم سوق العمل، ولا يساهم في خفض البطالة، بينما التعليم المهني يلعب دوراً كبيراً في الإنتاجية والنمو المستدام الذي يزيد الإنتاجية، ويقلص البطالة، ويحقق مزيداً من الدخول للدولة والأفراد على حد سواء.
فشل التخطيط الحكومي الإداري لتوقعات سوق العمل والتأهيل التعليمي يجعل من العمل والعاملين مساهمَين فعالَين في الحد من النمو الاقتصادي والتنمية، بدلاً من أن يكونا مساهمين فعالين في خلق فرص العمل، ودفع النمو، وتحقيق مزيد من الدخول للعامل والمجتمع.
تذكر منظمة العمل الدولية أن العامل العادي في اقتصاد الدخل المرتفع ينتج 62 مرة أكثر من الناتج السنوي لمتوسط إنتاج عامل في اقتصاد منخفض الدخل، وعشر مرات من المعدل المتوسط لعامل في اقتصاد متوسط الدخل؛ وهذا يعود إلى عدد من الأسباب، منها حصة قوة العمل من التحصيل العلمي للمستوى الابتدائي؛ فحصة المشاركين في سوق العمل ممن يحملون شهادة الابتدائية عند 79 في المائة في المغرب، و81 في المائة في إثيوبيا، و1 في المائة في الولايات المتحدة، وأقل من 2 في المائة في الدول الصناعية الغربية كافة، وأقل من 9 في المائة في أغلب دول أوروبا الشرقية، بما في ذلك جورجيا.
من الأرقام المثيرة أن الاقتصادات متوسطة الدخل (نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي بين 1.045 و12.736 دولاراً)، شكلت ما يقرب من 97 في المائة من النمو العالمي في العمالة الصناعية منذ عام 2000 حتى عام 2015 بسبب توجُّه الدول المتقدمة (نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي أكثر من 12.736 دولاراً) أكثر فأكثر نحو صناعة تقنية المعلومات التي تستهلك قليلاً من العمالة، وتدر أضعاف أرباح الصناعات التقليدية الأخرى، في حين نمت الاقتصادات المتوسطة الدخل بحدود 195 مليون عامل. ونحو 20 في المائة من العمال في العالم يعملون في الاقتصادات عالية الدخل، فيما يعمل 8 في المائة في الاقتصادات منخفضة الدخل (نصيب الفرد أقل من 1.045 دولاراً من الدخل القومي).
دور الجامعات بصورة أساسية يجب أن يتجه إلى تعزيز الشراكة بين الجامعات والقطاع الخاص في تطوير البحث العلمي واستثمار منتجاته، وتوجيه تلك الشراكة نحو أولويات التنمية في السعودية، وتحسين الأداء الاقتصادي بعيداً عن الاقتصاد الريعي، وتحويل الميزة النسبية إلى ميزة تنافسية.
الجامعات مطالبة بتحقيق الهدف المنشود في تأسيس منظومة معرفية، يتحقق فيها وبها بناء اقتصاد معرفي منتج بجدوى استثمارية، تعود بفوائد اقتصادية ومالية، ترفد نشاط الجامعات. هناك كثير من المسؤولين يرون أن ضعف مخرجات التعليم العام وتدني الدخل وراء انسحاب الطلبة من الجامعات بسبب آلية المفاضلة حسب المعدل الدراسي فقط، دون الأخذ في الاعتبار الميول المهنية والقدرات الذهنية المختلفة لدى الطلاب؛ إذ يؤدي إلى قبول الطلاب في تخصصات لا تناسبهم في أغلب الأحيان، وخصوصاً بعد انتهاء المقاعد المتاحة في الكليات النوعية التي يتنافس عليها عموم الطلبة، مثل التخصصات الصحية والهندسية، وهي لا تخدم سوق العمل بسبب قلة الوعي عن التعليم التقني والمهني التي يجب أن يكون الملتحقون فيها حسب الاستراتيجيات الموضوعة بنحو 25 في المائة؛ حتى تخدم مخرجاته سوق العمل، وتخفف الضغط على الجامعات، بدلاً من قبول نسبة 90 في المائة من خريجي الثانوية بدلاً من 60 في المائة في أغلب دول العالم.
ولم يتحقق ما صدر في القرار الملكي باعتماد مشروع آفاق للتعليم في عام 2012، ينتهي في عام 2019، الذي حدد نسبة قبول خريجي الثانوية في الجامعات بنحو 70 في المائة، بينما أغلب الجامعات تقبل 95 في المائة حالياً من خريجي الثانوية. وحدد المشروع أن تكون نسبة 55 في المائة في الجامعات و15 في المائة في كليات المجتمع، تشمل الطلاب المنتظمين والمنتسبين، و25 في المائة في المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، بينما حالياً تقبل فقط 5 في المائة؛ وهو ما يعني أن هناك خللاً في الموازين.
القبول بالجامعات خارج السياق العالمي؛ ففي بريطانيا تصل نسبة قبول خريجي الثانوية في الجامعات إلى 57 في المائة، وفي اليابان 50 في المائة، وفي سويسرا 38 في المائة، وفي ألمانيا 36 في المائة، وتهبط إلى 30 في المائة في تركيا (منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لعام 2012).
هناك توجُّه في الصين نحو تحويل نصف الجامعات البالغ عددها 600 جامعة إلى وحدات تدريب تقنية ومهنية، بعدما وجدت أن خريجي التدريب التقني يتم توظيفهم بعد ستة أشهر مقارنة بـ60 في المائة من خريجي الجامعات.
أنفقت الدولة بشكل سخي على قطاع التعليم، وفتحت باب الابتعاث على مصراعيه، ولكن في المقابل خلت تلك الفترة من إصلاحات هيكلية في قطاع التعليم التي كان يجب أن تتزامن مع إصلاحات اقتصادية جذرية. ولا يمكن أن يستمر قلب الاقتصاد السعودي (القطاع الخاص) يعتمد بشكل أساسي على العمالة الرخيصة والوافدة التي تشكّل 80 في المائة من العاملين، والتي ارتفعت حسب الإحصاءات الرسمية من مليونين في عام 2005 إلى 3.6 مليون في عام 2014، بينما ارتفع عدد الموظفين في القطاع الحكومي في عام 2014 إلى 3.2 مليون، وما تدفعه الحكومة من مرتبات يصل إلى 310 مليارات ريال. ويتوقع أن يدخل سوق العمل خلال العقد المقبل نحو 3 ملايين شاب.