كانت شخصية تمبل تتضح أكثر وأكثر بمضي الرسائل، وهذا يثبت موهبة دوروثي ككاتبة رسائل، فكاتب الرسائل الجيد يظهر شخصية القارئ على الطرف الآخر، بحيث يمكن من خلال القراءة لأحدهما تخيل الشخص الآخر. عندما تجادل وتناقش كنا نسمع تمبل بوضوح تقريبًا كما نسمع دوروثي نفسها، وكان هو على النقيض منها بأشكال عديدة.
كان يخلصها من كآبتها بتفنيدها، ويجعلها تدافع عن كرهها للزواج بمعارضته. كان تمبل الأكثر إيجابية وقوة بينهما، ومع ذلك كان هنالك أمر - ربما قليل من القسوة أو قليل من الزهو - برر كره أخيها له، كان يسمي تمبل «الرجل الأكثر كِبرًا وتحكمًا وحقارة وسوء طبيعة على الإطلاق»، لكن تمبل في عيني دوروثي كان يملك صفات لا يتمتع بها أي من خاطبيها، فهو ليس مجرد رجل إقطاعي نبيل أو قاضٍ بدين زير نساء يتودد لكل امرأة يراها، ولا سيد كثير السفر، لأنه لم يكن أيًا من هؤلاء، فلم تكن دوروثي بكشفها السريع للسخفاء لتقبل به. كان بالنسبة لها يتمتع ببعض الفتنة وبعض العطف الذي يفتقر إليه الآخرون، لذا كانت تكتب له ما يخطر ببالها مهما كان ذلك، لقد كانت في أفضل حالاتها معه لأنها أحبته واحترمته. لكنها مع ذلك قررت على نحو مفاجئ أنها لن تتزوج به، وتحولت إلى معارضة عنيفة للزواج واستشهدت بزواجات فاشلة. كانت تظن أنه لو أُتيحت الفرصة للناس لمعرفة بعضهم بعضًا قبل الزواج فسيكون ذلك نهاية له. إن الشغف هو الحاسة الأكثر استبدادًا وحمقًا بين حواسنا، فهو الذي جعل السيدة بلونت «حديث كل الخدم وفتية الشارع»، كما كان سبب دمار السيدة إيزابيلا الجميلة، وما نفع جمالها إن كانت قد «تزوجت بذلك الوحش وكل عقاراته»؟ بعد أن شعرت بالتمزق بسبب غضب أخيها وغيرة تمبل وخوفها من السخرية، لم تتمن شيئًا سوى أن تترك لتجد قبرًا هادئًا وقريبًا. كان استحواذ تمبل على هواجسها وتجاهله معارضة أخيها عائدًا بشكل كبير لشخصيته، ومع ذلك كان تصرفًا لا يمكننا إلا أن نستهجنه. حين تزوجت بتمبل لم تعد تكتب له الرسائل، وتوقفت المراسلات على الفور. لقد انطفأ العالم كله الذي خلقته دوروثي، وعندها ندرك كيف أصبح العالم مدورًا ومكتظًا ومؤثرًا. تحت دفء تأثيرها على تمبل، اختفت الصلابة من كتابتها، كانت تكتب نصف نائمة قرب فراش والدها منتزعة ظهر رسالة قديمة لتكتب عليه، وبدأت تكتب ببساطة رغم تمتعها دومًا بالوقار المناسب لذلك العصر عن السيدة ديانا وإيشام والعمات والأعمام، في رواحهم وغدوهم وأحاديثهم، إن كانوا مملين أو مضحكين أو ساحرين أو كما هم في العادة. وعلاوة على ذلك، اقترحت أن تكتب آراءها لتمبل، وعن العلاقات الأعمق والمزاجات الأكثر خصوصية التي تمنح حياتها الصراع والسلوى، طغيان أخيها، مزاجيتها الخاصة وكآبتها، عذوبة السير ليلًا في الحديقة، عن الجلوس قرب النهر تائهة الفكر،وعن لهفتها للرسائل ووصول واحدة. كل هذا كان حولنا، كنا في عمق هذا العالم نستحوذ على لمحاته وإيحاءاته حين ينمحي المشهد في لحظة. تتزوج دوروثي ويكون زوجها دبلوماسيًا ناشئًا، ويتعيّن عليها أن تدير أملاكه في بروكسل وفي لاهاي وفي كل مكان يستدعى إليه. ولد لها سبعة أطفال وسبعة ماتوا» في المهد»، ووقعت المسؤوليات والواجبات الكثيرة على عاتق الفتاة التي كانت تسخر من البهرجة والرسميات والتي أحبت الخصوصية وتاقت إلى العيش بمنأى عن العالم و «أن نكبر معًا في كوخنا الصغير». أصبحت سيدة في منزل زوجها في لاهاي بمائدته ذات الأطباق الرائعة، كما كنت أمينة أسراره في الكثير من مشاكل مهنته الشاقة، وظلت تدعمه في لندن ليفاوض حول إمكان دفع راتبه المتأخر، وحين حرق يختها تصرفت بشجاعة أكبر من القبطان نفسه كما قال الملك. كانت كل شيء يمكن لزوجة سفير أن تكونه، وكانت أيضًا كل شيء يمكن أن تكون زوجة رجل متقاعد من الخدمة العامة. نزلت بهما النوائب، فقد توفيت ابنة لهما وملأ ابن لهما - ربما ورث الكآبة عن أمه - حذاءه بالأحجار وقفز في نهر التايمز. وهكذا مرت السنوات، حافلة ونشطة ومرهقة، لكن دوروثي احتفظت بصمتها.
في النهاية، جاء شاب غريب إلى مور بارك ليكون سكرتير زوجها. كان صعبًا وسيئ الطبع وسريعًا في الشعور بالإهانة، لكننا استطعنا رؤية دوروثي عبر عيني سويفت مرة أخرى في السنوات الأخيرة من حياتها، ويسميها سويفت «دوروثي الدمثة المسالمة الحكيمة الرائعة»، لكن الضوء يسلط على شبح، فنحن لا نعرف هذه السيدة الصامتة، ولا يمكننا أن نربطها بعد كل هذه السنوات بتلك الفتاة التي بثت عواطفها لحبيبها. فهي لم تكن «مسالمة وحكيمة ورائعة» حين رأيناها آخر مرة.. ورغم أننا نقدر هذه السفيرة الجذابة التي جعلت مهنة زوجها مهنتها أيضًا، إلا أننا نود في لحظات أن نقايض كل مزايا التحالف الثلاثي (1) وأمجاد معاهدة نايميخن (2) مقابل رسائل دوروثي التي لم تكتبها.
** ** **
(1) تحالف بين ألمانيا والنمسا والمجر دام من 1882 إلى الحرب العالمية الأولى.
(2) سلسلة معاهدات وقعت في المدينة الهولندية نايميخن بين 1678-1679 وأنهت عدة حروب بين فرنسا وإسبانيا والدانمارك.
- ترجمة/ بثينة الإبراهيم