محمد آل الشيخ
في الغرب، ظهرت مؤخراً كثير من التقارير والدراسات والمؤلفات التي تشير إلى أن (ظاهرة الإلحاد) بشتى أنواعها، وتحديداً فئة (الملحدين اللا أدريين) بين فئات الشباب، وأهمها كتاب (عرب بلا رب) الذي ألفه «براين ويتاكر» وتحدث فيه عن (قضايا الإلحاد في الشرق الأوسط)، وقد حاور فيه المؤلف -كما يقول- عدداً من الملحدين من عدد من الدول العربية بما فيهم مواطنون سعوديون. ولا أدري عن علمية هذا البحث ودقته وصدقيته، حيث أفصح عن أسماء بعضهم، ممن يسكنون في الغرب، وغيّب أسماء آخرين، بحجة أن كشف هوياتهم قد يعرضهم لأذى مجتمعاتهم وربما سلطاتهم السياسية كما ذكر، وهذا بلا شك يُقلل كثيراً من علمية البحث، فقد تكون هذه الشخصيات التي حاورها وذكر مقولاتها شخصيات وهمية مختلقة، ما يجعل (الفبركة) تكون هنا احتمالاً قائماً، لا يمكن لأحد تجاوزه أو إنكاره.
غير أن من يتابع مواقع التواصل الاجتماعية على الإنترنت، وبالذات موقع (تويتر) سيلحظ توجهات تتزايد مع الوقت تدعو إلى الجزم بأن هذه الظاهرة تزايدت مؤخراً, خاصة بين الشباب المراهقين، بعد أن رأوا -في تقديري- الدماء والجرائم الفظيعة والوحشية والمقززة التي يرتكبها الإرهابيون وبالذات المنتمون إلى تنظيم (داعش) في العراق وسوريا وليبيا، وهم المحسوبون نظرياً على أهل السنة والجماعة، وأيضاً ما ترتكبه عناصر (الحشد الشعبي العراقي) وميليشيات (حزب الله) اللبناني وهم المحسوبون على الشيعة. ومن المعروف أن التوجهات الإلحادية تزيد حدتها ويتزايد معتنقوها، في الأزمات والاضطرابات الاجتماعية، كما حصل في أوربا في القرن التاسع عشر، عندما تلطخت هذه الثورات بالدماء، وكان باعثها ومنطلقها ديني طائفي، هذا رغم أن الأديان كما يقول التاريخ، ويثبت الواقع الإنساني، أنها من عوامل الاطمئنان والراحة النفسية وتكريس قيم الأخلاق والتسامح، سواء بالنسبة للأفراد، أو المجتمعات؛ وليس صحيحاً ولا دقيقاً القول إن هناك تناقضاً بين العلم والمكتشفات العلمية من جهة والأديان من الجهة الأخرى كما يقول بعض الفلاسفة الغربيين، فأمريكا -مثلاً- التي تتيح للملحد أن يُعبر عن رأيه بحرية يحميها القانون، ويمكنه من الدعوة إلى إلحاده، يُشكل المؤمنون بالأديان فيها أكثر من 80 في المائة بين السكان، وهي بمقاييس التقدم الحضاري، المادي منه والفلسفي، تعتبر في مقدمة الدول المتحضرة، فإذا كان الإلحاد وعدم الإيمان بالأديان مرده للتقدم الحضاري كما يزعمون، كان يجب تبعاً لهذه النظرية أن يكون الإلحاد وعدد الملحدين هو الأعلى بين الأمريكيين، بينما أن الواقع الإحصائي العلمي على خلاف ذلك، ما يدحض هذه النظرية من منطلقاتها، ويُبين عوارها. غير أننا يجب ألا نغفل أن النفس البشرية السوية تكره العنف وتخشاه، وتميل بطبيعتها وجُبلتها البشرية إلى الاستقرار المجتمعي النفسي، وهذا ما انطلق منه فقهاء المسلمين الأوائل، في زمن العصور الإسلامية المزدهرة لأن النصوص الإسلامية كانت تنحو إلى هذا المنحى بوضوح؛ يقول جل وعلا في القرآن الكريم يصف نعمته على قريش (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)، فجعل الأمن الغذائي والأمن من الخوف قرينين، كما أن أقوال الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، وفي مواضع كثيرة، حث على ترسيخ الأمن، والتغليظ على ردع من شق عصا الطاعة، وترسيخ الألفة والتآخي بينأفراد المجتمع الواحد، كذلك نهى عن التشرذم والتشظي والفرقة والتناحر بين بني البشر، وجعل القتال ضرباً من ضروب الاضطرار. كما أن الفقهاء الأوائل يُجمعون تقريباً على تقديم الأمن واستقرار المجتمعات على العدل ودفع الظلم وقيم المساواة إذا كان الأخذ بمثل هذه القيم سيفضي إلى نسف استقرار وأمن المجتمع, كما في تبريرهم الموضوعي المؤيد لطاعة (المتغلب) سياسياً, إضافة إلى أن الإيمان ليس فقط حاجة مجتمعية وترسيخاً لمكارم الأخلاق، يقوم عليها أمن واستقرار المجتمعات، وإنما هو -أيضا- حاجة فردية نفسية، يكرس في أعماق الإنسان المؤمن الراحة والطمأنينة، وهو ما أشار إليه جل وعلا في قوله تعالى (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) وهذه ظاهرة مشاهدة، وعكسها أيضاً مشاهد، وهو ما يكتنف الملحد من ضيق واضطراب نفسي وقلق نتيجة لأسئلته التي لا تهدأ، وقياساته العقلانية للقضايا الغيبية، التي لا يمكن الوصول إليها بحواس العقل البشري، وهي ما تقوده غالباً إلى الإلحاد، فالقلق، والاكتئاب فالاضطراب النفسي الحاد.
كل ما أريد أن أقوله في هذه العجالة أن الإلحاد إذا صح أنه انتشر وتزايدت معدلاته مؤخراً، فإنه في تقديري نتيجة طارئة سببها أن دعاة الإرهاب وأساطين الثوار المتأسلمين، يربطون أفعالهم وما يقترقه أتباعهم من هدر دماء وقلاقل وفتن بدين الإسلام، ما جعل الآخرين، وبالذات الشباب منهم يجدون أنفسهم في مأزق بين ما يدعو إليه هؤلاء المتأسلمون المسيسون، وبين التخلي عن الدين بالكلية، الأمر الذي أدى إلى اتساع رقعة الملحدين بين العرب في الآونة الأخيرة.
أي أن ظاهرة الإلحاد مجرد ردة فعل عكسية على ممارسات التأسلم السياسي المتشدد والعنيف والدموي والمقزز.
إلى اللقاء.