كانت العلاقة التي تربطني بحقل التراث العمراني لا تتجاوز نطاق دراستي المتخصصة بكلية العمارة والتخطيط في مرحلتي البكالوريوس والماجستير، بالإضافة الى ممارستي العملية في هذا الحقل ضمن مسئوليات سابقة في إدارة البلديات، وطوال سنوات مضت انحصرت هذه العلاقة في مهام محددة كان علي التعامل معها في إطار ما أضطلع به من مسؤولية مهنية فقط، حيث لم تكن ناتجة عن دوافع داخلية أو إيمان بأهمية التراث العمراني الوطني، بل كنت في كثير من الأحيان أنظر إلى تلك المواقع التراثية على أنها عبء إضافي على كاهل المدينة ولا يجب التركيز عليها أو أن تمنح حيزاً في أولوية إدارة العمران.
في نوفمبر عام 2007م، كلفت بتقديم عرض عن مشاريع بلدية تعنى بالتراث العمراني ضمن برنامج زيارة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله - عندما كان أميراً لمنطقة الرياض - آنذاك، ورغم مشاركة الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني في تلك المشاريع إلا أنني في حقيقة الأمر لم أكن مهتماً بإبراز جهودها في تلك المناسبة باعتبار أنها لم تساهم بتكاليف مالية، وكان ذلك هو الفهم السائد لإغلب مسيري المدن في ذلك الوقت، والذي كان يكمن للأسف في حصر مفهوم المشاركة في الجانب المالي فقط دون النظر للجهود وأوجه الدعم التي تقوم بها الهيئة والمتمثلة في الأدوار التوعوية والتنظيمية والتنسيقية والفنية اللازمة للقيام بتلك المشاريع. ونقل لي في حينها أمين منطقة الرياض عتب الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز على التجاهل - غير المتعمد - لجهود الهيئة رغم أنها من أسس وحفز لهذه المشاريع.
أعاد التاريخ نفسه في ابريل عام 2009م، وكلفت أيضاً بتقديم عرض لمشاريع بلدية تعنى بالتراث العمراني وكانت هذه المرة ضمن برنامج زيارة للأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، وقررت حينها أن أقدم رسالة عملية للأمير سلطان بن سلمان مضمونها أن ما حدث في السابق لم يكن تجاهلاً بقدر ما كان عدم فهم واستيعاب لطبيعة الدور الرئيس لجهود الهيئة في مشاريع التراث العمراني بقطاع البلديات، وعملت مع فريق العمل على تقديم مشاريع ومبادرات وخطط طموحة تعنى بالمحافظة على التراث العمراني وتأهيله كأحد المقومات الاقتصادية الرئيسة على مستوى إدارة المدينة.
وصلت تلك الرسالة حينها للأمير سلطان بن سلمان، وكان سموه مبادراً، ومحفزاً، وقدم درساً عملياً في بناء المعنويات وقيادة التحول من خلال تفاعله الكبير مع تلك المشاريع والمبادرات وثنائه وتقديره للجهود التي بذلت وإعلانه بدعمها شخصياً وتسخير كل إمكانات الهيئة لتحفيزها ونقلها لأرض الواقع. بعد تلك الفترة كنت أكثر قرباً من منظومة الهيئة بدافع إنجاز الدراسات المتعلقة بمشاريع التراث العمراني، وخلالها تطورت علاقتي بحقل التراث العمراني، وبدأت ألمس تأثيره الإيجابي على مسيرتي العملية في إدارة المدن، وصرت أكثر اهتماماً بهذا الحقل عطفاً على ما وصلت إليه من قدرة على تحليل وزنه النسبي والتنافسي في تركيبة العمل البلدي ووظائفه المختلفة.
في مايو عام 2013 م طرأ تحول جذري على علاقتي بالتراث العمراني عندما شاركت مع الهيئة في زيارة استطلاعية الى أسبانيا، فرغم زيارتي السابقة للمدن الإسبانية كسائح ، إلا أن تلك الزيارة كانت بمثابة مواجهة عملية بحتة مع تجارب عالمية ثرية في التراث العمراني، بعدها دخلت مرحلة انتقالية جديدة لا تقتصر على الإيمان بأهمية التراث العمراني الوطني فحسب، بل كونه بات قضيتي الرئيسة بحكم تواجدي في خط الدفاع الأول عنه وحمايته والمحافظة عليه وتنميته واستثماره وتشغيله. أجد هذه التجربة تضعني في موقع مسئولية أدبية ومهنية لتحمل رسالة توعوية وتعريفية عن التراث العمراني لكل المؤثرين في قطاعات إدارة المدن، حتى لا نخسر مزيداً من القيم المعمارية والعمرانية، يقول ألدوس هكسلي: «التجربة ليست ما يحدث للإنسان، بل ما يفعله الإنسان حيال ما يحدث له».
المهندس بدر بن ناصر الحمدان - متخصص في التخطيط والتصميم العمراني وإدارة المدن