د. خالد محمد باطرفي ">
في عام 1945م، التقى الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، الرئيس الأمريكي روزفلت على ظهر المدمرة الأمريكية «كوينسي» التي نقلته إلى مؤتمر قمة يالطا، لإرساء قواعد السلام بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي ختام اللقاء سأل الرئيس العاهل السعودي ماذا تستطيع أمريكا أن تقدمه للدولة الناشئة، فطلب الملك تجهيزات حفر وضخ مياه الآبار، وشرح بأنه يسعى لتوطين البادية وتوفير مصادر للرزق لهم كالزراعة والرعي، ولكنه بحاجة للماء.
قرية البيضاء، إحدى قرى منطقة مكة المكرمة، في محافظة بحرة، كانت قبل خمس سنوات منطقة صحراوية تنقصها معظم الخدمات العامة.
مؤسسة الملك فيصل الخيرية كانت تبحث عن منطقة تقيم عليها مشروعا برؤية جديدة، تقوم على التنمية المستدامة، فلجأت إلى الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة مكة المكرمة، الذي رحب بالفكرة واقترح خمسة مواقع لقرى في المنطقة المحيطة بأم القرى، مكة المكرمة. زار خبراء الجمعية جميع هذه القرى قبل أن يقع اختيارهم على هذه البيضا.
البداية كانت صعبة، فالفكرة جديدة، لم يستوعبها السكان. فثقافة توفير الطلبات لا الاحتياجات كانت وما زالت سائدة. وجل الجمعيات الخيرية تبحث عن المحتاجين لتوفر لهم ما يطلبونه من خدمات ومساعدات، وليس ما يحتاجونه بالفعل. فمن السهل أن توفر اللحم لبيت جائع، ولكن من الصعب أن تعلمه كيف يربي المواشي والدواجن، ويستزرع الأرض لتأمين احتياجاتها.
تدخل الإمارة كان فارقا، وسهل كثيرا إقامة ورش عمل للتعريف بالفكر الجديد، ومتطلبات تنفيذ المشروعات، وأهمها العنصر البشري بعد التدريب والتأهيل. أول تلك المشروعات كان توفير المياه، وبأيدي أهل القرية وإشراف خبراء الجمعية، تم بناء مجموعة سدود صغيرة. ونتيجة لتجمع المياه لفترات طويلة تشبعت الآبار واستخدمت للشرب والزراعة. كما تم تركيب محطة لتنقية مياه الصرف الصحي، والاستفادة من إنتاجها في المزارع الجديدة.
ركزت المشروعات الزراعية على الشتلات التي تناسب البيئة، ويحتاجها السكان، وأهمها كانت الأعلاف للاستفادة منها في تربية المواشي التي وزعت على السكان. وخلال السنوات الماضية تمت زراعة عشرة آلاف شجرة.
ساهمت الجهات الحكومية في عدة مشروعات، أهمها بناء مستوصف صحي، ومدارس، وشوارع وطريق يربط القرية بالطريق العام. ويوم الأربعاء قبل الماضي بدأ تنفيذ مشروع إسكان تموله وزارة الإسكان لأهل القرية، ويشمل في مرحلته الأولى 267 وحدة سكنية، تستخدم في بنائها الطين والفلين والمواد المحلية، بحيث تتواءم مع البيئة، وتوفر في استخدام الكهرباء. مع استخدام الطاقة المتجددة كالشمسية في الإضاءة وتسخين المياه والتبريد.
الجميل في هذا كله، أن كل هذه المشروعات تبنى بأيدي أبناء القرية، فيما تركز بناتها على الأنشطة التي تناسبهن كالتعليم والخياطة والزراعة والصناعات التقليدية والمهن اليدوية المنزلية. كما ان صيانة البيوت والمنشآت والمكائن يتم بأيدي أبنائها وبناتها. حتى إن إحدى الشركات المنفذة عينت أبناء القرية المدربين مديرين ورؤساء في مشروعاتها، وعرضت على بعضهم الاستمرار معها برواتب مجزية تبلغ تسعة آلاف ريال.
كما شجع المشروع المبادرات الفردية والمشروعات الصَّغيرة التي تقوم بها أسر منتجة، وشباب تحمس للعمل في أنشطة القطاع الخاص.
وللنجاح الذي حققه المشروع في تطوير وتنمية الإِنسان السعودي، وجه أمير المنطقة كلا من المحافظات السبع عشرة في المنطقة باختيار قرية واحدة على الأقل لكل محافظة لتطبيق التجربة عليها بعد دراستها بما يناسب ظروف وطبيعة كل موقع. كما طلب من جامعة أم القرى أن تدرس التجربة وتوثقها لتعميم الاستفادة منها.
الطريف أن خبيرا أمريكيا في البيئة والتنمية المستدامة عاش خمس سنوات في القرية لتدريب السكان، ألقى كلمة في حفل افتتاح المشروع الإسكاني باللهجة المحلية «المكسّرة»، وأبدى إعجابه بقدرة المواطن السعودي على التعلم والإنتاج والإبداع.
ليست هذه هي التجربة الأولى من نوعها، فقد سبقها تجارب قادها الأمير خالد الفيصل في منطقة عسير، فنقل، بالتعاون بين الحكومة والقطاع الخاص والجمعيات الخيرية، مناطق نائية كالحبلة والقحمة إلى قرى حديثة، أصبحت اليوم مدنا صغيرة.
نتمنى أن تعمم هذه التجربة الناجحة إلى كافة مناطق المملكة.