ياسر حجازي
(1)
حينما يُحصر التناقضُ الزمني في منطق ثنائي ضدّي ولا يوضع في مكانه المادي ضمن حركة الزمن والمادة، فإنّ معناه الدلالي وانعكاساته على الأرض الواقع تنحصر في التطرّف والإقصاء بحيث لا يختلف كثيراً عن الأحاديّة وهذا ما يجعله مرفوضاً في الذهنيّة التقليديّة الثابتة، لطالما ترى العالم من منظار محتملين يقضي أحدهما على الآخر: (ينقض/يناقض).
وهذه الرؤية بالكاد رؤية بدائيّة ترتدّ بالإنسان إلى بداياته في مسيرة الوعي المحصورة بتقويم الأمور بوسائل محدودة ومرجعيّة ذهنيّة ثنائيّة، فكلّما تطوّر الإنسان تعدّدت احتمالاته لمواجهة الواقع، فمنطق الأضداد والثنائيّات لا يصلح في إدارة الواقع وهو من مخلّفات الإنسان القديم، لكنّه في هذا الشرق، ما زال ناشطاً بأسلوبه: (هذا أو ذاك، معنا أو ضدّنا) وما زال يحظى بالقبول على الرغم من تعثراته. وهذه البدائيّة في التعامل مع الواقع تنتج تطرّفاً لا محالة على مستوى الفكر وارتباطه بالواقع أو انفصاله عنه أيضاً، وبالتالي، يظهر التناقض هنا على أنّه موقف غير منحاز أو غير ثابت، ممّا يجعله منبوذاً، ويغلق الأبواب أمام أيّ احتمال آخر قد يظهر لصالح التوافق أو التعدّد.
والأصل في الواقع أنّ التناقض الزمني واقعٌ في سلوك وتصرّفات الإنسان التعدّديّة ومحيطه وظروفه مع الزمن والمعرفة والمادة، والمسألة مع التناقض هو التصوّر ذاته، وعلى ماذا يستند؟ هل يستند على ثنائيّة (الخير والشر) المطلقة؟ وهل يمكن الاتفاق على هذه المفاهيم إلاّ من منظور استبداديّ إقصائيّ يريد أن يثبّت تصوّراته ويلغي تصوّرات الآخر؟ هل يستند على عامل زمني جامد أم متحرّك؟ واقع أحاديّ أم متعدّد؟ هكذا يختلف تقويم قيمة التناقض من سلبيّة مرتبطة بثبات مفاهيمي وهذا تصوّر الإنسان القديم والتقليديين، ومن حالة ضروريّة مع حركة الزمن وتطوّر المعرفة؛ فالوقت والواقع والمعلومة أساس في قيمة التناقض بوصفه جزءاً من التطوّر في إطار مفاهيم وتصوّرات تعدّدية تطوّرية؛ فحالما يخرج التناقض من (الحالات القانونيّة التشريعيّة) مع اشتراط العامل الزمني والمصلحة التي ينتج من ورائها ظهور التناقض أو التغييّر في المواقف يصبح جزءاً من حركة الزمن والبراغماتيّة، ولا نقصد هاهنا نهائيّاً التناقض الذي يمكن أي يقع في الوقت عينه وفي الحالات عينها أو يقترب من حدود التعارض، فحينما نتحدّث عن قانون وتشريع قائم الآن فإنّما يتوجّب أن لا تتعارض نصوصه ومواده إلى أقصى حدود، لكنّ ذلك لا يعني نهائياً أنّ حركة القوانين والدساتير مع الزمن هي حركة ثابتة لا يتضمّنها تناقض في نصوصها العامّة المتراكمة تاريخياً.
(2)
هل يتبقّى من الأمل قيد نأمة إن حكمنا بثبات الإنسان النهائي بوصفه كائناً نهائيّاً، ولا يمكن بالتالي تطوّره، وكلّ ما يمكن فعله على هذا التصوّر أن نزيد من الأطر حوله بمحاصرة كلّ سلوكه، حتى الفرديّة منها، والمتعلقة فقط بشؤونه الخاصة؛ أليس هذا ما يفعله الاستبداد وتبشّر به خطابات الوصاية! ما الذي يبقى من أملٍ حينما نقضي على طبيعة الإنسان المتحوّل في طبعه التعدّدي ومحيطه التعدّدي والتفاعل بينهما؟
(3)
الحلول الثنائيّة استبداديّةٌ بطبعها الإقصائي، وهي لا تختلف عن الحلّ الأحادي، وكلاهما يدمّر الإنسان واحتمالات التعايش، إذ تغلق الأبواب جميعة على أيّ احتمالات أخرى تأتي بها الوساطات والتوفيقات وغيرها من المحتملات المتعدّدة، لطالما لا يمكن للإنسان اليوم أن يستسلم أن حياته مرهونة بمحتملين فقط، وأنّه عالقٌ في مفاهيم أخلاقيّة قائمة على ثنائيّات لا تقدر أن تحفظ الحدّ الأدنى من التعايش السلمي.
(4)
أن ترى العالم بعينين لا يعني أن العالمَ مقسومٌ لواقعين ومحتملين متناقضين يصارع ليقصي أحدهما الآخر في هلاكٍ دائريّ ديموي، فهذا التصوّر مسؤولٌ عن تدمير العالم في صراعاته الماديّة؛ العالمُ ليس مثاليّاً كما يريده المثاليّيون-الدينيون، ليس خيراً وشراً، المادة لا تحتكم إلى هذه المفاهيم، وعلى قدر ما كانت مفاهيمك ثابتة على قدر ما ازداد تصادمك مع حركة المادة والزمن وتعثّرت في فهم هذه الحركة والتأقلم معها، وعلى قدر ما كانت مفاهيمك متطوّرة فإنّها الأقرب والأكثر تكييفاً مع المادة والزمن؛ فاعتبار العالم خاضعاً لثنائيّة الخير والشر يفترض - تحديداً- معايير نهائيّة وثابتة لكلا القيمتين النسبيّتين، وهو ما يتعذّر ثباته داخل الفرد، فكيف باختلاف البيئات والشعوب.
(5)
لا أحبّ الكتابة؛ تأخذني من محيط السعادة إلى غرفاتٍ في الذاكرة لا يحبّذ الدخول إليها كثيراً والمكوث بها طويلا كما تستحثّك عليها الكتابةُ؛ لا أحبُّ النشر أكثر؛ إنّه يأخذك من مأمنك إلى محكمة لست في وارد الوقوف في أروقتها؛ وفي عقول لا تفهم التعدّد والتناقضَ بوصفهما حالتين طبيعيّتين في الإنسان، وخصوصاً إذا أراد الإنسان أن يزيح الخوف قليلاً وينزاحُ ف ي حقول الحريّة.
• أنت متناقضٌ جدّاً، يقول العالق في ثباتٍ بيولوجيٍّ إحيائيّ في وعيه.
• بلى، إنّي على هذه الحالات، يرضيني ويطوّحني في هوى الدنيا تناقضٌ.
(6)
إلى التناقض الإيجابي الحيّ أيّها العقل؛ ذلك أنّ التناقض الزمني كحالة مرافقة للتعدّد يجعلك أقرب إلى وعي الإنسان من غريزة الحيوان الثابتة في احتمالاتها.
بلى، قلت و/أو نشرت كذا وكذا، قبل سنوات أو سنة أو دون ذلك، وكان في تصوّراتي هذا الاتجاه ثمّ تبيّن التيه فيه (فملتُ) إلى غيره، وهكذا بين تيه وهدى؛ فهل يجوز أن أبقى أسير قولٍ أو موقف؟ هذا ما يقوله المنشورُ والموقفُ المتّخذُ.
الحريّة الآن أن لا تخاف ممّن ينعتك بالتناقض والمخالف والخارج؛
أنا الآن غير الذي كنتُه في الأمس، أيّ ضيرٍ في ذلك؟ وغداً على الأرجح قد أتغيّر إن بقيت جرأتي في نقد التصوّرات كلّما تجدّدت وتكشّفت لي معطيات كانت غائبة.
(7)
خذ مثلاً: كيف ينتقدون أدونيس من موقفه من الصراع الدمويّ في سوريّة، يقولون: (وقفَ إلى جانب الثورة الإيرانيّة، ولم يناصر الثورة السوريّة؟) وعلى علّة هذه الجملة والشك في يقينها بين المقاربة بين ثورة شعبٍ أنجزت هدفها بإسقاط الشاه بأقلّ التكاليف، وبكلّ تيّاراته: (الشيوعيون، الليبراليّون، الدينيّون، العسكر) وإن شهدت بعد ذلك تصعيداً وتصفيةً من الفريق الديني الأقوى، وبين ثورة من جزء من الشعب ومشكوك فيها لأنّها لا تحظى بالقبول عينه من جميع تيارات الشعب، وفوق ذلك تعثرها في التمدّد وتورّطها بالتطرّف وارتفاع تكاليفه الدمويّة التي لم تنته حتّى تاريخه، وعلى الرغم من كل هذه الفروقات بين الحالتين بين ثورة قصيرة أتت أكلها ثمّ كان بينهم من أكلها، وبين حرب أهليّة طويلة دمّرت بلداً وهجّرت شعباً، فإن أعداء أدونيس يأتون بها كأنّ الحدثين واقعان الآن فوق مسرح واحد، فيكون تقويم الموقفين محض ظلمٍ في تصديرهما وليس بعاقل و/أو بعادلٍ من يصدّرهما. بينما ما حدث وما يحدث بينهما قربة 34 سنة.
أليس المدّة كافية أن يتغيّر الإنسان أيها الثابتون، أليس المدّة كافية أن يرى مأساة العنف وانتحار الأحلام الإيرانيّة في الحريّة على مذبحة العمامات والملالي؟ ومأساة أن تخرج الشعارات من المساجد ولا تحمل حريّة الإنسان، بل ترى فيها الدعوة لخروج الناس من قبضة استبدادي إلى قبضة أخرى لا تختلف كثيراً في استبدادها، وتزيدها عنفاً دمويّاً باسم الدين، ولا تقبل أيّ تعدّد أو تنوّع ثقافي وحضاري كان على أرضها منذ آلاف السنين.
هذه ضريبة النشر؛ هذه ضريبة أن تملك وعياً نقديّاً وتبدأ فيه من نفسك وتصوّراتك، بينما من حولك عالقين في ثبات تصوّراتهم البالية، وتشكّ أنّهم يملكون حريّة اختيار التصوّرات أو أنّ هذه التصوّرات هي محض قناعاتهم وليست طافحة عن وعاء بما دُلق فيه عبر تعليم وإعلام موجّه حدّ الترقيم والتشفير.
هذه ضريبة أن تكون في مذبحة أنّك لا تريد أن تتأبّد بكونك إنساناً متوحشّاً معانداً لطبيعة التطوّر فيه؛
هذه ضريبة أن تملك هذه التساؤلات والتناقضات والتحوّلات الملازمة للوعي المتعدّد اللا-نهائي التداولي الشكّاك بينما من حولك يستأنس بتصوّراته الموحشة المتطرّفة حول الإنسان بوصفه كائناً متوحّشاً ونهائياً.