(1)
(كلّ شيء مؤجّل إذاً)؛ الجملةُ مطلقةٌ، وهي إلى الشعر أقرب، فالإطلاق في النثر إذا حُمّل مقتضاه تاهَ عن المقصد؛ ما هذا الإيغال في الرمز أيّها التَّقِيُّ من عواقب تركيبه للكلمات، ماذا تريدُ؟
الحريّة مؤجّلة؛ أحدّثك الآن عن التأجيل تحت (شرط) التأهيل، حين يقضي غاياته في وعي الناس. ما هذا الشرط الموغل في الاستحالة والإطلاق! ليس للتأهيل غاياتٍ لتُقضى، إنّما الغاية في وعي المُؤهِّل: فانظر لترى! وكم هي احتمالات أن تكون الحريّة معلبة لا تختلف عن غيابها.
من أين جاءت هذه البدعة التي اسمها «مرحلة»؟ أنْ تعتبرَ الحريّة نتيجة تعاقب مراحل معيّنة تتضمّن التأهيل والتثقيف فإنّك تؤكّد على غيابها التام؛ الانتظار دون قرار لن يأتي بالحريّة، ليس للحريّة أقدام. فأنت لا يمكن ربط حريّتك والمطالبة بها بانتظار أن يقوم غيرك بالمطالبة نفسها، أو أنّك تنتظر أكثريّة الناس حتى يسعون إلى حريّتهم، فما أضناه من رهانٍ، وما أبعدها تلك الحريّة.
(2)
في قراءة التاريخ قد ترى المراحل نسبة لمخزونك المعرفيّ وقدرتك على تقسيم الأحداث والفترات تحت تأثير تصوّر ما، وقد تختلف بين باحث وآخر في مُبرّرات التقسيم المرحلية لحركة التاريخ، فالمرحلية تصوّرٌ لاحقٌ.
• المرحليّة جزءٌ من قراءة التاريخ في وعي القارئ، وليست جزءاً من حركة التاريخ.
التاريخُ ليس مصنعاً أو خطوط إنتاجٍ، التاريخُ ليس وعياً؛ التاريخُ ظلّ أفعالك وتابعٌ لقراراتك لا صانع ولا قائد؛ خُذْ قرارَكَ إذاً، أنتَ الصانعُ، أمّا المراحلُ تأتي لاحقاً.
(3)
وأنتَ أيها الرمل ابقَ أميناً على اتفاق سريّ عقدناه سويّة؛ لا تُبق أثراً، إنّ المتعقّبين الراصدين أخذوا بأطراف المدينة ينفضون ما تحتها كأنها قماشٌ ومن فيها بقايا.
أيها الرمل أتعبني فيك التشابه، تِهْ قليلاً، أزحْ هذا الحزام عن عيني حتى أرى الصحراء في جُبّة غير هذا العزاء المُبتلى بصمت بالكاد تخترقه كلماتٍ مُحدّدة ومتشابهة.
وأنت أيّتها القدمُ الحيّةُ لا تنسي الرقص إنّ الإيقاعَ يقاوم التشابه، ويستخرجُ من محبسها التفاصيل.
وأنت أيّها الضائع في مقولة: «الشيطانُ تكمنُ في التفاصيلِ» ربّما لا تعي أنّك عالق في التشابه والتفاصيل قادرة على إخراج من هذا التيه.
في التفاصيل تكمن الحلول بانتظار من يدخل فيها ويفكّ من اشتباكاتها، بينما القفز فوقها: (يكسر الرقبة).
في التفاصيل تكون الملامح وتتّضح الصورة، والقفز فوقها: (يحرق الصورة).
أنتَ موجودٌ في التفاصيل، وحريّتك وجودك، وحريتك أملٌ في تميّزك أمّا غيابها فيبقيك في رمل التشابه، فانتبه لذلك، وخذه في اعتبارك وأنت تفاوض الحياة على الحياة.
(4)
بلى، هذا الرمادُ لا يُشبهُ الرمادَ الذي تخلِّفُهُ النارُ.
على ماذا الرهان أيّها الحارسُ؟ ليس في بال عشتار أنّها عشتارُ، والربيعُ من طبعه لا يعي أنّه ربيعُ.
(5)
لا تدع احتمالاً من حسبانك قبل رمي النرد.
هناك احتمال أن تكون عالقاً في التيه وتبقى غافلاً أنّك في التيه؛ ومرّة أخرى هذه المفارقات الملتبسة بين علاقة الوعي بالحالة الوجوديّة؛ كيف يمكن أن اعتبرك في تيه إذا كان وعيي ووعيك يجاهلان أنّك في التيه؛
وجودك ليس كفاية لإثبات الحياة، الوعي بأنّك حيٌّ هو الموجد قبل الخوض في مآلات الوعي الأوّلي بين نسبيّة الغياب والحضور. شرطُ الحياة عليكَ أن تعي أنّك حيٌّ، وشرط حياتك عليَّ أنْ أعيها، فدون اتّفاق الوعيين ينحلّ الشرط، فقوّة الإلزام في العقد ليس محلّها الاتفاق على الشروط إنّما اتّفاق الوعيين بالشروط: كيف تعي الشرط وكيف أعيه!
(6)
شرطُ العدلِ صحّة القانون والوعي به وليس وجوده. والصحّةُ شرطها النفع، والوعي شرطه الاتفاق.
(7)
الخطأُ ليس في نتيجة المعادلات والحساباّت. اعلمُ أنّكَ قد قضيت وقتاً طويلاً واجتهدتَ في التطبيق والاستنتاج ولم تخالف القاعدة في حلّ المعادلات، لكنّ الخطأ كان في القاعدة نفسها.
(8)
الوقتُ حاضرٌ وبقيّة الجهاتِ غافلةٌ.
• ليس للوقت وعي حتّى يدرك وجوده.
• هذا ما يخدعك الوعي به: أنّه يظنّ بنفسه قيمة فوق الوقت، ولكن هل يلتفت الوقت لهذا الظنّ؟ هل في باله.
الوقت والتاريخ يمشيان دون هذه الظنون التي هي من طبيعة الوعي.
(9)
أنتَ حيٌّ الآن، هل تعي؟
خذ من اللغة العربيّة هذه المصادفات في حَلِّ الحاء: حيٌّ، حُريّة، حُبٌّ.
• عدنا إلى الخداع، ولعبتك المفضّلة في اللغة والكلمات: توقّف عن الانتقاء: أين أخفيت حاء الحرب والحبس والحقد؟
بلى، اللغةُ على نيّة قائلها، إذا شاء حرباً قالت الحاءُ: «حربُ»، وإذا شاءَ حُبّاً قالت الحاءُ: «حُبُّ».
(10)
«باسم العموم» ..يتحدّث سياسيٌّ أو كاتبٌ، يلتهمان العموم في جوفهما أثناء الكلام ، ويقبضان على الشعب كلّه في قبضة يديهما أثناء الكتابة؛ الجنون لا ينحصر فيما يفعلانه من تمثيلٍ وتفويض اعتباطيّ س اذج ومزوّر، الجنون يمتدّ في حماسة أتباعهم الذي يتنازلون عن عقولهم. مَنْ أذن لكَ أن تَنسب رأيك للعموم؟ وأنتم أيّها الأتباع (الغُيّابُ): ما هذا الفرح الفجّ وأنتم مطموسين في محبرة هذا وحنجرة ذاك!
• كيف يتسلّل وحش الاستبداد إلى عقل المتبوع؟ كيف تستوطن النعامة عقل التابع؟
(11)
يقولُ: «الحُريّةُ خطرٌ على السلطةِ، خطرٌ على الإنسان»، ذلك أنّه يرى الإنسان كائناً متوحّشاً ونهائيّاً. ذلك أنّه يخاف من نفسه أن تتحرّر من عقدة الأبوين الأولى.
حسناً، إن كان الإنسان على هذا التصوّر النهائيّ فهل ممثّلو السلطة والأبوين لا يخضعان للتصوّر عينه؟!
• الحريّة سلامةٌ للنفَس والنفْس فإذا ما عطّلتها قَلَبْتَ ربيعها خريفاً وريحها الطيّبة رياحاً عاصفة في جهاتك المغلقة.
الخطرُ العام أو الخطر على العموم -بوصفهم هم الأفراد الذين منهم النظام ومنهم الفوضى - كامنٌ في تعطيل الحريّة وإبعادها عن الأنسنة، فإن كُنتَ في وارد اتّقاء رياحها فإنّما عليك حينذاك أن تجد حلّاً: كيف لا تكون الحريةُ خطراً على السلطة، وكيف لا تقوّض السلطة الحريات؟ كيف تكون الحريّة ربيعاً لا خريفاً؟ لأنّ السلطةَ شرطٌ أساسٌ في إدارة النظام وتقويض الفوضى، وتداولية السلطات لا تعني إطلاقاً تدميرها.
(12)
كلاهما ضرورة: (الحريّة والسلطة) واتّفاقهما حداثة سياسيّة.
الحريّةُ وعي الإنسان بنفسه. السلطةُ عقلنة الوعي وتنظيم الحريّات.
قد تبدو الحريّة نقيض السلطة، وقد تبدو السلطة نقيض الحريّة، لكن هذا الإبداء عبارة عن تصوّر بدائي متورّط بتطرف مفهوم الثنائية والضديّة؛ ولأنّ السلطة شرطٌ لإباحة الحريّات وحمايتها، ولأنّ الحريّة شرطُ لنفعيّة السلطة، فأيّما اختلال بينهما في شروط معاهدة الاتّفاق والاختلاف فإنّ الرياحَ حينذاك بالمرصاد.
- جدة