د.خالد بن صالح المنيف
يروى أن الدكتور الأديب يوسف إدريس أصيب بآلام مبرحة في ظهره فذهب لأحد المتخصصين لتشخيص الحالة وإعطائه العلاج المناسب؛ فأجرى له أشعة للظهر، وبعد أيام ذهب لأخذ النتيجة؛ فحدث ما لم يجر في خاطره عندما أخبره الطبيب بوجود بقعة سوداء على إحدى فقرات الظهر أغلب الظن أنها رخوة! فضاقت الدنيا بما وسعت على د. يوسف لأنها يعرف من خلال خبرته الطبية أن هذا يعني أنها بقعة سرطانية على الأرجح! فاعتلج الهم في قلبه وطار النوم من عينيه، وبعد أيام تواصل معه طبيبه وطلب أن يجري له تشخيصاً أخيراً, ولو كان الأمر شبه محسوم، وذلك عن طريق إدخال منظار لتحسس المنطقة الرخوة فإن تم الاختراق دون ألم فهو الخبيث أعاذنا الله وإياكم، وإن أصطدم به وأحس بألم فهو مجرد التهاب، وبينما هو يراقب الوضع بنفسه وحال وصول المنظار للبقعة السوداء؛ سمع طرقاً عليها وأحس بألم شديد؛ فكان أروع ألم يحس به بشر حيث إن هذا يعني أنه مجرد التهاب! ولا تسل حالة الدكتور بعد هذا الألم فقد استعاد حيويته واسترد ابتسامته.. فما أروعك يا ألم!.
إن الألم تجربة ذات أبعاد إيجابية لو تأملها البشر بشكل أعمق, يقول برايان تريسي: كل تجربة هي تجربة بناءة فعالة إذا ما اعتبرت فرصة للنضج والتعلم والضبط النفسي, ولو أدرك البشر حقيقة الألم لعلموا أنه نعمة عظيمة وهبة جليل ومنحة كبيرة، لفوائده الجمة ومنافعه العديدة، وبعد تقليب النظر وأعمال العقل وإمعان التنقيب رصدت لك شيئاً من فوائد الألم لعلها تسري ما بك وتخفف عنك:
1 - أن وجود الألم منذر بوجود (علة) في جسدك، وهذا الإحساس يعني أن العضو المتألم لا يزال حياً، إضافة إلى أن هذا الألم يدفعك للبحث عن علاج والتماس الدواء؛ فلو تقلبت من شدة الألم، واصفر لونك وشحب جسمك ففي الأمر خير لك، وتخيل لو أنك لا تشعر بألم الحرق؛ فعندها سيحترق جسدك! ولو أنك لا تشعر بألم الكسر؛ فهذا يعني أن العضو المكسور سوف تتعطل منفعته! وقد تبين بعد إجراء عدة فحوصات لأطفال كانوا لا يتألمون أبداً ولا يبكون استطاع الأطباء أن يكتشفوا المرض (CIPA)، وهو مرض عدم الشعور بالألم، وأكدوا أنه نادر ولا دواء له، مما يجعل المصاب به عرضة لقطاع عريض من المخاطر والالتهابات, ربما يأكل معها الطفل لحمه, كما أنه يتسبب في تلف الأربطة والمفاصل، جراء حمل أوزاناً كبيرة لا تطيقها المفاصل، وسببه عدم الإحساس بالألم.
2 - ومن حسنات الألم أنه يشعرنا بقيمة (العافية) ويجعلنا نعيد تقييم الممتلكات التي لا تقدر بثمن، وبضدها تتميز الأشياء, والبشر إذا اعتادوا (العافية) ظنوا أنها أمراً مسلماً لازماً ولا يشعروا بقيمة الصحة ولا بثمن (العافية) إلا إذا زارهم ألم.
3 - كثيراً ما تحل بالإنسان نكبات تنهك (روحه) وتنهش (قلبه) يخرج منها العاقل بقرب أكثر لربه؛ فينطرح على عتباته ويلتزم جنابه, يسأله العافية ويطلبه الشفاء، ويصحح هذا الألم مساره ويدفعه لرد الحقوق, والتوقف عن الظلم.
4 - والألم مع (الصبر) نعمة تستوجب الشكر، فيطهِّر الله به الإنسان من الآثام والذنوب وترفع بها منزلته، بل إن الله إذا أحب عبداً واصطفاه ابتلاه، فالألم يصهر مَعْدِن الإنسان المسلم، فتصفو رُوحه، ويزكو خلقه، وتَطْهُر نفسه.
5 - الألم يعلم الصبر ويصقل الروح ويصلب القناة فالعمل الشاق يزيد المرء قوة وقدرة على تحمل الأعباء، والشعوب التي تعاني لا شك أنها أكثر قوة وأشد ثباتاً وأقدر على مكابدة النكبات, واحتمال أن ينجح من لا يجد معوِّقات في حياته ولا تهب عليه رياح عاصفة تصل للصفر! بل ويفقد الإنسان إحساسه بالحياة ومعها توازنه، ويصير إلى حالة يرثى لها إذا فقد التحديات وهي التي قد تسبب شيئاً من الألم.
6 - الألم (مُشعرٌ) عن متاعب الآخرين ويؤسس فينا مشاعر الرحمة والإحساس بالآخرين، فنقدم لهم يد العون والمساعدة؛ فالغني عندما يتألم يهب لمساعدة المسكين فيعينه بماله، والقوي إن مر به ألم الظلم هب لنجدة المقهور، والعلماء والمخترعون يتوجعون لآلام مجتمعاتهم فتكون معها المخترعات والاكتشافات العظيمة.
7 - والألم يستنهض (الهمم) ويقوي الإرادة الآلام تقوي العزيمة والإرادة، وتثبت دعائم الرجولة الحقة، فيكتسب المسلم حصانة من آلام الحياة، ويستمد من مقاومتها قوة وصلابة يستطيع بها مواجهة صعوبات الحياة وظروفها القاسية؛ فألم الإخفاق يبصر صاحبه بطريق النجاح، وألم القهر والتسلط يدفع صاحبه إلى البحث عن طريق الحرية، وألم الندم على المعصية يقود إلى لذة الطاعة، وألم الفقر يخطو بصاحبه صوب الغنى والثراء.
8 - والألم يفجر الأبداع ويصور الجمال؛ فالشاعر الذي تقارضته الهموم وتنازعته الذكريات وبات يساير النجوم ويتقلب على الجمر كاسف البال منقبض الصدر؛ جزماً سيجلي عن نفسه بأبلغ البيان وسيعبر عن ضميره بأرق العبارات وسيبلغ بأبياته كنه القلوب وسيسحر العقول ويخلب القلوب.
والإنسان إن إراد أن يكون ألمه نعمة فلا بد أن أن يصبر إن زاره متحلياً بالعزم راضياً بقضاء الله وقدره لا يجزع ولا يكثر الشكوى ولا يسخط فالإيمان بالقضاء والقدر حالة إيمانية شعورية راقية تقدم الدعم المعنوي الكافي للسير في رحلة الحياة وتقوي قدرة المكروب على إكمال الطريق ولا تحول بينه وبين الأمل والتفاؤل والسعي لتحقيق أهدافه وأن يبادر ويعمل على التخلص منها أو على الأقل تخفيفها مؤمناً بأن سحائب الألم سريعة الانقشاع ورياح الوجع قريبة السكون وتأكد أن في الحياة لا ثمة مواقف ولا مشاهد ولا نكبات في الحياة ميؤوس منها فالحالات التي لا يُرجى الخلاص منها ولا الانفكاك من تبعاتها نادرة جداً, ونحن لا ننشد الألم ولا نطلبه فخير ما سأل الله المسلم هو العافية ولكم تبن دائماً يا بطل مع كل شيء تراه سلبياً معتقداً إيجابياً ستصبح عندها شخصاً فعالاً وسترى في هذا الكون الجمال وستكون أكثر عطاء وأعظم تفاؤلاً وجزماً أكثر نجاحاً وسعادة.
ومضة قلم
أصعب عملية حسابية يمكن أن تقوم بها على الإطلاق هي حساب النعم التي وهبك الله إياها.