في الطريق إلى جدة، كانت الطائرة تمخر عباب السماء، على متن رحلة عمل إلى «غادة البحر» كما يصفها شاعرها يحيى توفيق، ساعات الفجر الأولى كفيلة بأن تجعل منك إنساناً آخر، أكثر إحساساً من أولئك الذين لازالوا على الأرض، لحظات السكون تحبس أنفاس الجميع، تشعر بأنهم يترنمون «بأكنافِ الحجازِ هوًى دفينُ، يؤرِّقُني إذا هدَتِ العيونُ». بعد أن تلاشت الغيوم ظهرت «جدة» و»الشمس» و»البحر» في لحظة واحدة لا تتكرر إلا مرة في العمر، كنا على موعد مع صباح « استثنائي» لا يحضره سوى القادمين بشوق من الشرق، حطت الطائرة في أرض المطار وكأنها تعانق جسد مدينة بعد غياب، ولسان حالها يقول « أحنُّ إلى الحجازِ وساكنيهِ... حنينَ الإلفِ فارقهُ القرينُ».
اتجهنا الى قلب جدة التاريخي، الذي توارى قسراً خلف التنمية العمرانية الجديدة، في «البلد» حيث تُغرس الحياة، سوف تتعرف على عالم آخر، يشعرك بإن ثمة أرضا لم تُكتشف بعد، هذا المكان مر بحقب تاريخية قبل الإسلام، وفي عهده، ومرورا بالمماليك، والعثمانيين، ونهاية بالعصر الحديث، حضارات نشأت وانتهت وبقيت جدة شاهداً على كل ذلك التاريخ.
سور جدة القديم الذي تمت ازالته عام 1947م ببواباته السبع كان يشكل حزاماً أمنياً لحمايتها من أطماع البرتغاليين للسيطرة على ملاحة البحر الأحمر، يحتضن هذا السور منطقة عمرانية تقارب مساحتها 1.5 كيلومتر مربع تشكلها حارات: المظلوم، والشام، واليمن، والبحر، والكرنتينه، حيث نشأت هذه الحارات على مجموعة مبان تقليدية ذات طرز معمارية فريدة تعبر عن فترة زمنية مزدهرة بالهندسة والفنون والحرف والصناعات، منحت عمارة هذا المكان من الأرض عنواناً للأصالة والتفرد المعماري، تتوسطها مساجد تاريخية كمسجد عثمان بن عفان، والشافعي، والباشا، والمعمار، وعكاش، والحنفي وغيرها، وتتاخمها أسواق مثل سوق العلوي والبدو وقابل والندى، وخانات تاريخية مثل خان الهنود، والقصبة، والدلالين، والعطارين.
كل هذا الإرث كان كفيلاً أن يضعها على خارطة التراث العالمي، إنصافاً لهذا المكان الذي توقف به الزمن يوماً، نتيجة قدرته على استيعاب معايير اليونسكو كإحدى القيم الإنسانية الهامة والمشتركة بشهادة فريدة من نوعها، وكونه مثالاً بارزاً على نوعية البناء والمعمار وتجسيد نوعي لممارسات الإنسان التقليدية في استخدام الأراضي ذات الارتباط المباشر والملموس بالأحداث والتقاليد المعيشية والأفكار والمعتقدات والأعمال الفنية والأدبية ذات الأهمية العالمية الفائقة.
جدة التاريخية عاد إليها «الأمل»، وبدأت تستعيد الحياة، وبلسان حالها شجن «وقليل من الارض يكفي لكي نلتقي»، إننا مدينون لها باعتذار عن أيام الغياب التي كانت، لازالت تحمل بداخلها «عتب» كبير على أهلها وناسها وساكنيها الذين «تخلًوا» عنها.
مفردات الشعر والنثر والأدب لم تعد تكفي لأن تعود» البلد» كما كانت، إنها بحاجة الى «قرار»، و»إرادة»، و»عزم» من مجتمعها المحلي الذي يمتلك الحيز الأكبر من نطاقها العمراني، ملاك جدة التاريخية مطالبون بالإيفاء بعهد «الحب» الذي كان ولازال يجمعهم بغادتهم، عودوا إلى منازلكم القديمة وأوقافكم وساحاتكم وأربطتكم ومراكيزكم ومقاعدكم، وأعيدوا بناءها، واستثمروا فيها، حاولوا ترجمة كل ذلك الحب الى برامج ومشاريع وتأهيل وترميم، دعوها تشعر بعودتكم، عرفوا أبناءكم وبناتكم من هي «جدة» وأيامها الحلوة، وكيف كانت تحتضنكم، وكيف نشأتم بها وبين تفاصيلها، حدثوهم كيف غادرتموها، وتركتموها، وكيف عدتم إليها، قولوا لهم بشكل عملي «كنا كدا».
المهندس بدر بن ناصر الحمدان - متخصص في التخطيط والتصميم العمراني وإدارة المدن