عمر بن عبد الرحمن العمر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. أما بعد.. فإن البيعة الشرعية لولي أمر المسلمين من أهم المهمات وأوجب الواجبات فبها يحصل تماسك الجماعة وتقوى الدولة وتنتظم مصالح البلاد والعباد ولأهميتها أحببت أن أقف حولها في الوقفات التالية:
الوقفة الأولى
البيعة فِي اللغة:
المعاهدة والمعاقدة، قَالَ ابن مَنْظُورٍ فِي لِسَان العَرَبِ: (وبايعه عليه مبايعة عاهده وبايعته من البيع والبيعة جميعاً والتبايع مثله، وفي الحديث أنه قَالَ: (ألا تبايعوني عَلَى الإسْلام) هو عبارة عن المعاقدة والمعاهدة كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه، وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره).
والبيعة فِي الشرع معناها: المعاقدة والمعاهدة عَلَى العمل بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم، وأما البيعة الواجبة لولي الأمر فهِيَ: العهد عَلَى السمع والطاعة بِالْمَعْرُوفِ، قال ابن خلدون فِي مقدمته: (اعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره. وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري، فسمي بيعة، مصدر باع، وصارت البيعة مصافحة بالأيدي.. هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع).
الوقفة الثانية
كيفية البيعة وتنصيب الإمام:
ذكر أهل العلم طرقاً يتم بها اختيار إمام للمسلمين وبعض هذه الطرق استنبطوها من تولية الخلفاء الراشدين ولا شك في مشروعية طريقة تولي الخلفاء الراشدين لأن المصطفى عليه الصلاة والسلام حث المسلمين عامة على التمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، قال النووي رحمه الله: (أجمع المسلمون على أن الخليفة إذا حضرته مقدمات الوفاة وقبل ذلك يجوز له الاستخلاف ويجوز له تركه فإن تركه فقد اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا وإلا فقد اقتدى بأبي بكر وأجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف وعلى انعقادها بعقد أهل الحل والعقد لإنسان إذا لم يستخلف الخليفة وأجمعوا على جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين جماعة كما فعل عمر بالستة وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة ووجوبه بالشرع لا بالعقل).
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (والإمامة تنال بالنص كما تقول طائفة من أهل السنة في أبي بكر أو بالإيماء إليه كما يقوله آخرون منهم أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بعمر بن الخطاب أو بتركه شورى في جماعة صالحين كما فعله عمر، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له، فيجب التزامها عند الجمهور.
وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع والله أعلم، أو يقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف وقد نص عليها الشافعي)، وقال شيخنا العلامة صالح الفوزان حفظه الله: (وتنصيب الإمام يتم بطرق الطريق الأول بيعة أهل الحل والعقد له كما حصل لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه الطريق الثاني أن يعهد الإمام إلى من بعده بالإمامة كما عهد أبو بكر الصديق إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلزمت إمامته وانقاد الناس له فكان ذلك خير للإسلام والمسلمين، الطريق الثالث أن يعهد الإمام إلى جماعة من أهل الشورى يختارون من بينهم إماماً للمسلمين كما عهد عمر الفاروق رضي الله عنه إلى الستة الباقين من العشرة المفضلين، وهم: عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنهم، فاختاروا من بينهم أفضلهم عثمان بن عفان رضي الله عنه فبايعوه ولزمت بيعته لجميع المسلمين, الطريق الرابع أن يتغلب مسلم بسيفه حتى يخضع له الناس وينقادوا له فتلزم إمامته جمعا للكلمة وخروجًا من الخلاف ويكون إماما للمسلمين كما حصل لعبد الملك بن مروان، رحمه الله).
الوقفة الثالثة
البيعة الشرعية من الواجبات المتحتمات للحاكم على المحكوم وهي متعينة في عنق كل مسلم ومسلمة؛ فبها تنتظم مصالح العباد والبلاد ويحصل الأمن والاستقرار والاجتماع بين أفراد المجتمع، فعَنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عنهُ- قَالَ: «دعانا رسولُ الله -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم-، فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا: أنْ بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله» قَالَ: (إلا أن تَرَوا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وعن أبي هريرة قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: « كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبى خلفه نبى، وإنه لا نبى بعدى، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم « متفق عليه، وجاء عن عمر رضي الله عنه قوله: «لا دين إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمامة ولا إمامة إلا بسمع وطاعة» وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: «لا بد للناس من أمير؛ بَرٍّ، أو فاجر، يعمل فيه المؤمن، ويستمتع فيه الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل» وقال الحسن البصري -رحمَهُ اللهُ-: «والله لا يستقيم الدين إلا بهم وإن جاروا وظلموا، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن طاعتهم والله لغبطة، وأنَّ فرقتهم لكفر».
وقال شيخ الإسلام -رحمَهُ اللهُ «يجب أن يعرف أن ولاية أمور الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها « ولهذا كان تنصيب الإمام فريضة في الإسلام لما يترتب عليه من المصالح العظيمة، فإن الناس لا يصلحون بدون إمام يقودهم وينظر في مصالحهم ويدفع المضار عنهم، كما قال الشاعر:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
ولهذا لما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم بادر الصحابة بتنصيب إمام لهم قبل أن ينشغلوا بدفن الرسول صلى الله عليه وسلم لعلمهم بضرورة هذا الأمر، وأنه لا يصلح وقت ولو يسير إلا وقد تنصب الإمام للمسلمين.
الوقفة الرابعة
لزوم البيعة والتحذير من خلعها فإذَا بايع أهل الحل والعقد السلطان أَوْ الملك المسلم أَوْ تغلب عَلَى بلد مِنْ البلاد وجب عَلَى مِنْ يستوطن تِلْكَ البلاد البيعة لولي الأمر، وأن يعقدها بقلبه، وأن يقوم بحقها، وأن يحفظ عهد الله وميثاقه.
وبيعة أَهْل الحل والعقد لازمة عَلَيْهِمْ، وملزمة لمن يقع تحت سلطان ولي الأمر كما عليه أهل السنة والجماعة، وَقَدْ قال النبي -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم-: (من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فإِذَا لزمت البيعة فِي عنق المسلم فإنَّ هَذَا يعني أنَّهُ عَاقَدَ وعَاهَدَ ولِيَّ الأمر عَلَى أنْ يحفظ حَقَّهُ، فَعَلَيْهِ أنْ يُوفِي بعهده وميثاقه، وأن يَحْذَرَ مِنْ الخيانة ونقض العهد والميثاق.
قالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}.
وقَالَ - عزَّ وجَلَّ -: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} وعن أبي سَعِيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عنهُ- عن النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم- قَالَ: (لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وعن نافع قال: لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية، جمع ابن عمر حشمه وولده، فقال: إني سمعت النبيَّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم- يقول: (يُنصب لكل غادرٍ لواءٌ يوم القيامة) وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غدراً أعظم من أن يُبايع رجلٌ على بيع الله ورسوله ثم يُنصب له القتال، وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه) رواه البخاري.
وقال سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله:(لا يجوز لأحد أن يشق العصا أو أن يخرج عن بيعة ولاة الأمور أو يدعو إلى ذلك فإن هذا من أعظم المنكرات ومن أعظم أسباب الفتنة والشحناء، والذي يدعو إلى ذلك هَذَا، هَذَا هو دين الخوارج إذا شاقق يقتل لأنه يفرق الجماعة ويشق العصا فالواجب الحذر من هذا غاية الحذر، والواجب على ولاة الأمور إن عرفوا من يدعو إلى هذا أن يأخذوا على يديه بالقوة حتى لا تقع الفتنة بين الْمُسْلِمِيْنَ).
الوقفة الخامسة
الواجب على جميع الرعية الإقرار ببيعة ولي الأمر واعتقادها وأما الحضور للمبايعة فلا يلزم الجميع بل يكفي منهم أهل الحل والعقد, قال المازري كما جاء في فتح الباري:(َيكْفِي فِي بَيْعَةِ الإِمَامِ أَنْ يَقَع مِنْ أَهْل الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَلا يَجِب الاسْتِيعَاب، وَلا يَلْزَم كُلّ أَحَدٍ أَنْ يَحْضُرَ عِنْدَهُ وَيَضَع يَدَهُ فِي يَدِهِ، بَلْ يَكْفِي اِلْتِزَامُ طَاعَتِهِ وَالانْقِيَادُ لَهُ بِأَنْ لا يُخَالِفَهُ وَلا يَشُقَّ الْعَصَا عَلَيْهِ).
وقال النووي - رحمه الله- :»أَمَّا الْبَيْعَة: فَقَدْ اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لا يُشْتَرَط لِصِحَّتِهَا مُبَايَعَة كُلّ النَّاس، وَلا كُلّ أَهْل الْحَلّ وَالْعِقْد، وَإِنَّمَا يُشْتَرَط مُبَايَعَة مَنْ تَيَسَّرَ إِجْمَاعهمْ مِنْ الْعُلَمَاء وَالرُّؤَسَاء وَوُجُوه النَّاس وَلا يَجِب عَلَى كُلّ وَاحِد أَنْ يَأْتِيَ إِلَى الأَمَام فَيَضَع يَده فِي يَده وَيُبَايِعهُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمهُ الانْقِيَادُ لَهُ، وَأَلا يُظْهِر خِلافًا، وَلا يَشُقّ الْعَصَا» اهـ وقال العلامة محمد العثيمين رحمه الله: (البيعة تثبت للإمام إذا بايعه أهل الحل والعقد، ولا يمكن أن نقول: إن البيعة حق لكل فرد من أفراد الأمة، والدليل على هذا:أن الصحابة رضي الله عنهم بايعوا الخليفة الأول أبا بكر رضي الله عنه ولم يكن ذلك من كل فرد من أفراد الأمة، بل من أهل الحل والعقد، فإذا بايع أهل الحل والعقد لرجل وجعلوه إماماً عليهم صار إماماً، وصار من خرج عن هذه البيعة يجب عليه أن يعود إلى البيعة حتى لا يموت ميتة جاهلية).
الوقفة السادسة
أن البيعة الشرعية لا تنحصر في الإمام الواحد على جميع الأمة، بل إذا تعدد الأئمة على بلدان إسلامية مختلفة كما هو الواقع الآن, فإن لكل واحد منهم بيعة مستقلة، قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى -: «الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد - أو بلدان - له حكم الإمام في جميع الأشياء ولولا هذا ما استقامت الدنيا, لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد ولا يعرفون أحدا من العلماء ذكر أن شيئا من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم» اهـ وقال الشوكاني رحمه الله: (لا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه وكذلك صاحب القطر الآخر).
وقال العلامة محمد العثيمين - رحمه الله -: (ومن القواعد العامة في الشريعة الإسلامية أن الله يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فإذا لم يوجد خليفةٌ للمسلمين عموماً فمن كان ولي أمر في منطقة فهو ولي أمرها).
الوقفة السابعة
مقتضى البيعة ولازمها القيام بحقوق ولي الأمر والتي من أهمها: أولا: السمع والطاعة لولي الأمر بِالْمَعْرُوفِ: قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} الآية.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة).
متفق عليه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (تسمع وتُطيع للأمير، وإن ضُرِبَ ظهرُك وأُخذ مالُك، فاسمع وأطع) رواه مسلم في صحيحه من حديث حذيفة -رضي الله عنه-.
وعن سلمة بن يزيد الجعفي -رضي الله عنه- أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألون حقهم، ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيسٍ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمِّلتم) رواه مسلم في صحيحه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمَهُ اللهُ -: «وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد فيما نهى الله عنه؛ من معصية ولاة الأمور، وغشهم، والخروج عليهم بوجه من الوجوه، كما قد عرف من عادات أهل السنة والدين قديماً وحديثاً، ومن سيرة غيرهم».
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمَهُ اللهُ- في رسالة الأصول الستة (الأصل الثالث: إن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبداً حبشياً، فبين الله هذا بياناً شائعاً كافياً بوجوه من أنواع البيان شرعاً وقدراً، ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم فكيف العمل به).
لكن ينبغي أن يعلم أن أمر البيعة والسمع والطاعة لولاة الأمر لا يكون لأجل الدنيا بل لا بد أن يكون ذلك لوجه الله عزوجل دون طمع في مال أو منصب أو جاه، قال شيخ الاسلام رحمه الله: (فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد؛ وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر لله فأجره على الله.
ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم؛ وإن منعوه عصاهم: فما له في الآخرة من خلاق.
وقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم؛ ولا يزكيهم؛ ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل؛ ورجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لآخذها بكذا وكذا فصدقه وهو غير ذلك، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنيا؛ فإن أعطاه منها وفى؛ وإن لم يعطه منها لم يف}.
ثانياً: من حقوق ولاة الأمر النصيحة لهم، لما روى تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ ثَلاثا قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ قال الحافظ ابن رجب: (وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَحُبُّ صَلَاحِهِمْ وَرُشْدِهِمْ وَعَدْلِهِمْ، وَحُبُّ اجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِمْ، وَكَرَاهَةُ افْتِرَاقِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِمْ، وَالتَّدَيُّنُ بِطَاعَتِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْبُغْضُ لِمَنْ رَأَى الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ، وَحُبُّ إِعْزَازِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ).
والطريقة الشرعية في مناصحتهم وتذكيرهم تكون بالرفق والأسلوب الحسن سراً بلا تشهير أو تعيير، لما روى عياض بن غنم -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، وليأخذ بيده، فإن سمع منه فذاك، وإلا كان أدى الذي عليه» رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح، قال الإمام ابن باز - رحمه الله -: (ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة، وذكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف: النصيحة فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير).
ثالثاً: من حقوق ولاة الأمر التعاون معهم على البر والتقوى والصَّلاة خلفهم والحج والجهاد معهم، قال الإمام البربهاري- رحمَهُ اللهُ-: (ومن قال: الصلاة خلف كل برٍّ وفاجر، والجهاد مع كل خليفة، ولم ير الخروج على السلطان بالسيف، ودعا لهم بالصلاح فقد خرج من قول الخوارج أوله وآخره).
رابعاً: من حقوق ولي الأمر الدعاء لَهُ وهذا أمر تميز به أهل السنة والجماعة عن غيرهم من أهل البدع والضلالة، قال الإمام البربهاري -رحمَهُ اللهُ-: «إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا سمعت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة - إنْ شَاءَ اللهُ».
ويقول الفضيل بن عياض رحمه الله: لو كان لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلا في السلطان.
قيل له: يا أبا علي فسِّرْ لنا هذا.
قال: إذا جعلتها في نفسي لم تعدني وإذا جعلتها في السلطان صلح فصلح بصلاحه العباد والبلاد، فأمرنا أن ندعو لهم بالصلاح، ولم نؤمر أن ندعو عليهم وإن جاروا وظلموا، لأن جورهم وظلمهم على أنفسهم، وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين.
وقال الطحاوي في عقيدته: (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة).
وقال الإمام ابن باز - رحمه الله -: (من مقتضى البيعة النصح لولي الأمر، ومن النصح: الدعاء له بالتوفيق والهداية وصلاح النية والعمل وصلاح البطانة؛ لأن من أسباب صلاح الوالي ومن أسباب توفيق الله له: أن يكون له وزير صدق يعينه على الخير، ويذكره إذا نسي، ويعينه إذا ذكر، هذه من أسباب توفيق الله له)، وعندما سئل عمن يمتنع الدعاء لولي الأمر قال رحمه الله: (هذا من جهله، وعدم بصيرته؛ لأن الدعاء لولي الأمر من أعظم القربات، ومن أفضل الطاعات، فالمؤمن يدعو للناس بالخير، والسلطان أولى من يدعى له؛ لأن صلاحه صلاح للأمة) .
هذا ما تيسر لي كتابته هذا الموضوع المهم وأسأل الله تعالى برحمته التي وسعت كل شيء أن يغفر لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وأن يجزيه خير الجزاء على ما قدم للإسلام والمسلمين، كما أسأله سبحانه أن يوفق خلفه المبارك إمامنا وولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وأن يعينه ويسدده في أقواله وأعماله لما فيه صلاح العباد والبلاد، وأن يبارك في ولي عهده الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز وولي ولي عهده الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز وأن ينصر بهم دينه ويعلي بهم كلمته وأن يحفظ بلادنا من كل سوء ومكروه وجميع بلاد المسلمين، والحمد لله رب العالمين.