محمد سليمان العنقري
اللقاءات الودية بعالم كرة القدم ليست إلا للتجريب والتأكُّد من جاهزية الفريق واللاعبين، وأي أهداف تسجل فيها لا معنى لها؛ فهي لن تحسم بطولة. وفي عالم الاقتصاد يُعدُّ التجريب المتكرر خطراً كبيراً؛ لأنه يستنزف الوقت والمال، ولا يعطي نتائج مستدامة. ونخشى أن يكون ما يتم من معالجة لملف البطالة يقع تحت التجريب من خلال البرامج التي تطلقها وزارة العمل، ويدعمها صندوق الموارد البشرية، دون أن تكون الغاية تجريباً - حقيقةً - من قِبل الوزارة بل يكتشف بعد سنوات أن هذه البرامج والمعالجات لم تكن بالمستوى المطلوب أو الاتجاه الصحيح؛ فتضطر لتغييرها من جديد. ونأمل بأن نكون مخطئين بهذا التصور، إلا أن ما أفرزه برنامج نطاقات لم يكن خالياً من سلبيات جوهرية، كالتوطين الوهمي، وضَعف الرواتب الذي تظهره إحصاءات المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية بأن نسبة 55 % من المواطنين العاملين بالقطاع الخاص رواتبهم أقل من 3500 ريال.
إلا أن ما نقلته «صحيفة مكة» عن تفاهم بين وزارتَيْ العمل والشؤون الاجتماعية لدعم الأسر والأفراد الذين يحظون برعاية اجتماعية؛ لنقلهم إلى الاعتماد على أنفسهم، من خلال أحد البرامج المتعلقة بتوطين تجارة السواك، التي بدأتها وزارة الشؤون الاجتماعية ببعض الإجراءات، وطورتها بالتنسيق مع وزارة العمل؛ لكي تقوم الأخيرة بإخراج العمالة الوافدة من هذا السوق الذي وُصف بالكبير رغم عدم معرفة حجمه بالواقع؛ إذ لا توجد إحصاءات دقيقة، لكنه - حكماً - لا يتعدى بضعة ملايين من الريالات، وهو جيد لمجموعة ليست بالكبيرة من القوى العاملة، لكنه يُعدُّ صغيراً أمام ما يتوافر من فرص بالسوق لتشغيل أفراد المجتمع كافة القادرين والراغبين بالعمل؛ ما يطرح التساؤل الكبير: هل نحن نعالج البطالة بخطط واقعية استراتيجية بعيدة المدى أم هي مجرد إجراءات ذات أفق قصير الأمد، يندرج تحت التجريب فقط؟
وقد عقب - بحسب الصحيفة - المسؤول الأول لصندوق الموارد البشرية عن أهداف هذا التفاهم، وأوضح أنه يمكن أن يكون أفق تطور هذه التجارة واسعاً، يبدأ من توطين زراعة شجرة الأراك، التي يُستخرج منها السواك، إلى تصنيعه وتغليفه بل إدخاله بصناعة معاجين الأسنان وبعض المستحضرات الطبية، وأن تكون في نهاية المطاف أحد صادرات المملكة. وإلى هنا لا يعد كل ما ذكر أمراً غير مقبول لتحسين أوضاع محدودي الدخل، أو من هم تحت الرعاية الاجتماعية، أو حتى الاستفادة من الأراك بالصناعة والتصدير، بل يجب فعلاً استغلال أي فرص؛ لأنها في نهاية المطاف ستخدم الاقتصاد، لكن هناك نقاطاً أساسية، لا بد أن نقف عندها؛ لكونها تعطينا مدلولات أوسع على طرق معالجة البطالة.
أولها أن شجرة الأراك تُزرع بكميات كبيرة في اليمن، التي كانت تصدر لسوق المملكة مليونَيْ سواك سنوياً، والإمارات ومصر والأردن، أي أنه ليس ميزة خاصة لدينا، بخلاف أننا لسنا دولة زراعية بالمطلق لندرة المياه، وهذه الشجرة توجد فقط بالمناطق الجنوبية عموماً. فهل أُخذ عند إعلان كل هذه الآفاق بهذا البرنامج معايير الجدوى للتوسع بدعم البرنامج؟ فلا بد من وضع حجم وآفاق المشروع في إطار حجمه الطبيعي قبل أن يتوسع بما يضر أكثر مما ينفع، بل هل تعلم الجهات نفسها بأن معجون الأسنان بالسواك موجود بأسواقنا؟ فهل سألوا عن مدى رواجه؟ وهل يجب تحميل الفكرة التي انطلقت من وزارة الشؤون الاجتماعية أكثر مما تحتمل من قِبل وزارة العمل وصندوق هدف؟ وهل سيقومون بمنح أراضٍ لزراعة الأراك أم بناء مصانع لإنتاج السواك أو المستحضرات من الشجرة الطبية وغيرها؟ وكيف يمكن تحقيق كل ذلك دون تنسيق مع وزارة الزراعة، وكذلك التجارة والصناعة؟ ومن هو المستثمر الذي يغفل عن هذه الفرص، ولم ينفذها؟ مع العلم بأنها موجودة إلى حد ما من خلال منتجات نراها بالأسواق.
لكن كل ما ذُكر عن هذه الفكرة والمشروع يقودنا للتساؤل: ماذا يريد صندوق هدف ومن قبله وزارة العمل في ملف معالجة البطالة؟ فبعد سنوات من عملهما بهذا الملف ما زالت البطالة باتجاه تصاعدي؛ فعام 2010 كانت 9.6 %. ورغم أن السنوات الخمس الماضية شهدت أكبر زخم في الإنفاق الحكومي الاستثماري إلا أن البطالة وصلت إلى 11.7 %. وإذا كان التوظيف قد ارتفع كعدد بالسنوات الخمس الماضية إلا أن ارتفاع نسبة البطالة يضعف، أي إنجازات فعلية للوزارات المعنية بالشأن الاقتصادي والتنموي، ومن بينها وزارة العمل وصندوق هدف؟ فلا يوجد إحصاءات لما صرفه الصندوق على برامجه، توضح حجم المنفعة التي تحققت. فهذا الدعم الواسع بالتدريب والتوظيف لم ينعكس على المؤشر الأهم، وهو نسبة البطالة التي سجلت ارتفاعات. فبقدر زيادة التوظيف للمواطنين ارتفعت أيضاً أعداد الوافدين كثيراً. فمَن المسؤول عن إصدار التأشيرات رغم اكتشافهم أعداداً ضخمة من العمالة غير النظامية؛ ما يدل على أن الوزارة بإصدارها التأشيرات لم تكن تتعامل بواقعية مع احتياجات السوق الفعلية مهما حاولت أن توضح. فترحيل أكثر من مليونَيْ وافد غير نظامي بعملية تصحيح الأوضاع يدل على فائض العمالة الوافدة، فكيف تقوم بإصدار التأشيرات رغم الأعداد المهولة للوافدين، بل حسب الإحصاءات زاد عدد الوافدين 50 % بين عامَيْ 2004 و2014م.
لكن يبقى لتقييم دور صندوق الموارد البشرية «هدف» دور أساسي لفهم أسلوب معالجات البطالة القائمة حالياً؛ إذ لا بد من إعادة هيكلة برامج الصندوق، وتحديد دوره بدعم التوظيف بالقطاعات المنتجة ذات الاستقرار الوظيفي، كالصناعة وخدمات الصيانة والتشغيل في المقام الأول، وكذلك الصحة والتعليم. والأخير لولا الأمر الملكي بدفع نصف رواتب المعلمين بالتعليم الأهلي لما سمعنا عن دور يُذكر للصندوق في وظائف ذات أهمية كبيرة، فما الفائدة من برامج الترضية للقطاع الخاص المتمثل أهمها بمكافآت للمنشآت التي توظِّف أكثر؟ هل هذا يعتبر ميزة؟ أليس السياق الطبيعي أولوية توظيف المواطن؟ فلا يمكن بقياس مخرجات هذا الإنفاق من الصندوق على العديد من البرامج إلا اعتباره ضعفاً بكفاءة الإنفاق والنتائج الضعيفة عملياً، التي يؤكدها ارتفاع نسبة البطالة وظواهر التوظيف الوهمي.
فالصندوق يفترض أن يركز على قطاعات مهمة؛ حتى يجذب الشباب لها، وللتخصص بها. فلو ركز على القطاعات التي تم ذكرها بمزايا أعلى ومحفزات مختلفة لتوجَّه الكثير لتلك التخصصات بدلاً من كل هذه التشعبات التي أقحم الصندوق نفسه بها. ألا يعلم مسؤولو العمل والصندوق حجم الفجوة الهائلة بالقطاع الصحي في التخصصات الصحية بين المواطنين والوافدين العاملين بالقطاع لصالح الفئة الأخيرة؟ والأمر ذاته بالصناعة والصيانة وتخصصاتها المهنية، وكذلك السياحة. فحتى لو كان الصندوق سيقول إنه يدعمها إلا أن الأثر محدود بزيادة أعداد المواطنين العاملين بها. فالتكامل الحقيقي يجب أن يبدأ بين الصندوق والجهات التعليمية بأسلوب وإطار مختلف عن القائم حالياً؛ حتى تكون المخرجات إيجابية للاقتصاد ولسوق العمل، ومعالجة تشوهاته.
نقدر وزارة العمل والصندوق بما يسعيان إليه لمعالجة ملف البطالة، ودعم أي نشاط اقتصادي مهما كان حجمه أمرٌ إيجابي ومطلوب، لكن ما دمنا نعيش مرحلة ما زالت البطالة فيها مرتفعة، رغم إنفاق واعتماد مشاريع حكومية بأكثر من تريليوني ريال خلال السنوات العشر الماضية، فإن كل ما تم تنفيذه من برامج لمعالجة البطالة لم يكن بالمستوى المأمول، بل أفرز سلبيات واضحة، لا تقف عند التوطين الوهمي، بل بزيادة أعداد الوافدين، وارتفاع الحوالات منهم لأكثر من الضعف خلال السنوات الخمس إلى السبع الماضية؛ لتلامس حاجز 160 مليار ريال سنوياً، مع زيادة بالواردات؛ لتبلغ في آخر عامَين أكثر من 1.1 تريليون ريال. فأين الإنتاجية التي زادت من زيادة الوافدين ومن توظيف المواطنين وفق البرامج التي اتبعت؟ لتنعكس على الاقتصاد فقط بزيادة الاستهلاك والاستيراد، وعجز بالميزان التجاري غير النفطي، بقي لسنوات عند نحو 70 %، مع تركز كبير للمواطنين العاملين بالقطاع الخاص بنسبة تقارب 65 % بقطاعي التشييد والتجزئة؛ فهما أكثر القطاعات حساسية للنمو الاقتصادي باتساع التوظيف فيهما. والأمر ذاته عندما يكون هناك تراجع بالنمو؛ فهما أكثر القطاعات إلغاء للوظائف؛ ما سيعمق من مشكلة البطالة، ويرفع من معدلاتها مستقبلاً.