د. صالح بن سعد اللحيدان
أحسب أنني واحد من المتابعين الجدد للعلم والثقافة وسياسة الامتداد الحضاري، وكنت قبل ذلك في حلقتين مضتا أو ثلاث بينت بعض الآثار الضعيفة والموضوعة التي ينقلها بعض العلماء وكثير من المؤرخين وكتاب الأخبار، وكذلك كتاب السير وجلة المثقفين، وكنت بينت بجانب هذا بعض الأماكن والمواضع التي لم تصح، واعتقد كثير من الناس حتى كبار الباحثين والكتاب أنها ضرب لازب..
وفي السياق ذاته بينت هناك ان العجلة وسبق القلب للعقل والنقل المجرد تلك هي أسباب من أسباب كثيرة أثرت تأثيراً بالغاً في سياسة العلم والبناء الحضاري المستمر، ذلك أنه لا يصح إلا الصحيح.
ولعل الذي يحمل وزر ذلك وان كان هناك نية طيبة هم أولئك الذين يقبلون على النقل مع العجلة فالاستنتاج ثم الحكم ثم البناء على هذا وذاك ، على أن الحقيقة هي ما يدونونه وأن الحقيقة هي ما يرونها وألا شيء غير ذلك.
ولقد لمحت التعلق بالرأي المجرد والنظريات التي تحتاج إلى أدلة مادية لا محيص عنها، ومن الاستقراء خلال متابعتي لسياسة العلم والبناء الحضاري وسياسة النقد العلمي وجدت أن الإِنسان في هذا العصر هو ابن يومه يكرر ويملي على نفسه ما يظن أنه الصواب، حتى لقد يكون مستعلياً على سابق الحضارات من قديم الزمان، وحتى لعله ينتقد كبار العلماء خلال القرون السالفة ولما كان الإِنسان لا يقرأ كثيراً ولا يتأمل كثيراً ولا يستوعب كثيراً ولا يوازن فإنه في الغالب يقع في مصيدة العاطفة تلك التي تقوده إلى عمى البال فيظن أنه جاء بما يمكن أن يكون الأمر عليه حاسما.
ومن المعلوم من النظريات القضائية الجنائية وسياسة الإدارة العليا وبحوث الثأر العلمية أن هناك حالات يمر بها من هذه حالته فهناك الندم ثم الأسف ثم الحسرة، ولكن هذه لا تكون إلا بعد دهر طويل من حياة الإِنسان بعد أن يهدأ ويستقر ويكون مكيثا ويكون ذا طول تأمل وبعد نظر، حتى لقد قال بعضهم من نظر إلى ما ألف من قبل أو كتب من قبل ثم نظره فيما بعد قال ليتني زدت أو نقصت أو ليتني فعلت أو ليتني لم أفعل.
ولا جرم فإنَّ التاريخ الإخباري الذي ذكر سير الأمم والحضارات منذ أقدم العهود هذا بحد ذاته مدرسة لكنها تحتاج إلى العقل الواعي المكين، لا بل إلى العقل المكيث العادل المنصف وسياسة اللغة وسياسة فقه اللغة وسياسة العلم التطبيقي، هذه هي أسس الخروج من بوتقة ضيق الأفق وسجن العاطفة وحوض القلب. من هذا أدرك جيداً أن الإِنسان إذا راوح مكانه يبقى أسير العاطفة ويبقى أسير النظر ويبقى أسير الموقف لا يحيد عن هذا طرفة عين.
انظر مثلاً ما كتبه ابن خولكان وياقوت الحموي والمبرد في الكامل وابن عساكر في تاريخ دمشق وما كان قد كتبه السيوطي وما كان قد كتبه كذلك الساخوي، ثم ما دونه ابن خلدون في المقدمة، تأمل ما كتبه هؤلاء لا من باب الاسترواح ولا من باب المتعة ولا من باب قضاء الوقت أو الاستشهاد لكن من باب اخذ العبرة والتدبر والشعور بالمسؤولية.
صحيح أن العقول تتفاوت كذلك الأفكار كذلك القلوب لكن الذي لا محيد عنه أن العاقل يخاصم نفسه في هذه الحالة بالذات في ذلك الجو المغلق إن كان الإِنسان صادق نفسه وصاحبها أغلب الظن أنه يكون أحد العظماء، خاصةً إذا ترك هواه ونبذ عواطفه وجعل بينه وبين رغباته الذاتية أودية يصعب قطعها أبد الحياة.
إن حقيقة ما يمكن قوله في بناء العلم وبناء اللغة وبناء الحضارة ان نركز على وصول حصول العوارض التي تأتي فجأة أو تأتي بعد ترقب وذلك من خلال هذه الحالات، ما هي حقيقة الحاصل لدى العالم أو اللغوي أو المثقف ما هي أسباب ما حصل ثم بعد ذلك علة ما حصل ، وهناك فرق بينته كثيراً بين السبب والعلة، ثم بعد ذلك نظر الحلول كافة بتجرد تام ثم ننظر بعد ذلك أفضل الحلول وبعد هذا كله كيف يمكن تطبيق هذه الحلول أو هذا الحل لبناء العقل العلمي الموهوب وبناء العقل اللغوي الموهوب أو بناء العقل المثقف الموهوب (دع عنك الإداري العظيم الموهوب الذي يعرف ما له وما عليه).
ومن نافلة القول ان هناك أسساً كنت قد بينتها حينما كنت في وزارة العدل قبل انتقالي إلى عملي الجديد وذلك من خلال نظر الجنايات والخصومات لدى مجلس القضاء لكي ينظرها ناظر القضية، فجعلت هناك اعتبارات ثم عممتها على القضاة في عام 1402هـ فنفع الله بها ردحاً من الزمن بل قد جاوز النفع بها قرابة 70 في المئة. من ذلك أنني ذكرت حقيقة المرض النفسي قبل الجناية أياً كانت أثناء نظر القضية.
ثانياً: حقيقة المرض النفسي أثناء الجناية.
ثالثاً: حقيقة المرض النفسي أو الصدمة النفسية بعد الجناية.
رابعاً: ما يمكن أن يدعيه الجاني أو الجناة من خلل نفسي أو مرض نفسي.
هذه خطوات تبني العقل القضائي التطبيقي وهذه هي نفسها تفعل فعلها في مجال سياسة العلم وسياسة الثقافة وسياسة اللغة وكذاك الإدارة، ولا جرم فإنَّ العالم اليوم أشبه ما يكون بقرية ما يحدث في طرفها يسمعه الذي في طرفها الآخر وما يحدث في وسطها يشعر به الجميع.
وهذا يدعوني إلى القول كل القول إلى أنه لا بد من فقه الحياة عن طريق الموهبة العلمية العميقة والموهبة الثقافية كذلك، لأن هذا النوع من الناس هم من أصول البناء الحضاري الامتدادي دون اللجوء إلى العجلة أو حب الذات أو حب الرئاسة ونشدانها (والرائد لا يكذب أهله) فإنَّ كثيرا من العلماء والمثقفين لو جلبوا كتبهم تلك التي صنفوها مثلاً قبل عشر سنوات لحذفوا وأضافوا، ناهيك فلعل قليلاً منهم يتمنى لو أنه لم يكتب شيئاً من هذا أو ذاك، ذلك أن العقل الحر يزداد تطوراً ويزداد تجربة ويزداد معرفة لأنه لا يبقى على حال واحدة، وهذا يدعوني من خلال هذا المجلة الجيدة إلى أن نبدأ من جديد فلا نحرث في البحر ولا نرقم على الماء ولا نحط على الرمل والله اعلم..