د. عدنان بن عبدالله الشيحة ">
يتطلب خطاب الملك سلمان التوقف عنده كثيراً لأنه يجسد نهجه الإداري المميز وخبرته القيادية العميقة والثقافة التنظيمية التي يؤمن بها. ويعكس خطابه يحفظه الله فكره ورؤيته وقراراته والقيم السياسية التي يرتكز إليها النظام السعودي قولاً وعملاً. فالسلطة العامة في السعودية تمارس بدافع تطبيق الشرع وخدمة الناس وتلبية احتياجاتهم وتحقيق طموحاتهم وتطلعاتهم، وليس للتسلط كما يحدث في دول كثيرة من حولنا. وهذا بكل تأكيد أساس الاستقرار والأمن والأمان واللحمة بين الشعب وقيادته التي تنعم بها المملكة. وقد يقول البعض من الحاقدين أو من تسيرهم الأهواء والأجندات الخارجية إن استقرار السعودية سببه الثراء الاقتصادي، وهذه حجة عليهم فالسعودية مقارنة بدول أكثر ثروات حجما وتنوعا على رأس القائمة من حيث الرفاهية الاجتماعية والحفاظ على الضرورات الخمس (الدين والنفس والعرض والعقل والمال)، كما في الشريعة الإسلامية - دستور السعودية.
إن انسجام منظومة القيم بين أفراد المجتمع وقيادته هي المرتكز الأساس في العقد الاجتماعي والسبب وراء اللحمة الفطرية بين الحاكم والمحكوم والوحدة الوطنية في السعودية الكل يعي مسؤولياته ودوره والجميع يضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، فها هو الملك سلمان يختتم خطابه في إدراكه لهذه المسؤولية العظيمة، بقوله» مع شعوري بثقل الأمانة وعظم المسئولية فإنني أسأل الله تعالى أن يمدني بعونه وتوفيقه لتأدية هذه الأمانة على الوجه الذي يرضيه، وأن يحفظ لوطننا أمنه واستقراره، وأن يأخذ بأيدينا جميعاً، ويوفقنا لنصرة ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ومصدر عزنا، وأن يحقق لنا ما نطمح إليه إنه خير ناصر وخير معين.»
ويفصح عن إيمانه بالعمل الوطني المشترك حين أكد على «التصدي لأسباب الاختلاف ودواعي الفرقة»، وفي ذات السياق أشار إلى « إتاحة فرصة التعبير عن الرأي». إنها الثقافة الإسلامية التي تربى عليها أبناء الملك عبد العزيز والفكر السياسي العقلاني والعملي واحترامهم لشعبهم لأنهم منهم وفيهم، فلا تمايز إلا بحجم المسؤوليات والعطاء والبذل ومقدار الإسهام في تطوير وتنمية ورفعة البلاد. الإطار العام لهذا النظام السياسي هو الانفتاح على الجميع والوقوف على مسافة واحدة من الجميع باحترام متبادل وعلاقة تسودها المحبة في الله وتطبيق شرعه. وهذا يتجلى في سياسة الباب المفتوح واندماج جميع فئات ومكونات المجتمع في العملية التنموية الوطنية ليتعزز الانتماء معتصمين بحبل الله إخوانا. وهذا ما أشار اليه يحفظه الله في خطابة عندما قال:»إن كل مواطن في بلادنا، وكل جزء من أجزاء وطننا الغالي هو محل اهتمامي ورعايتي، فلا فرق بين مواطن وآخر، ولا بين منطقة وأخرى، وأتطلع إلى إسهام الجميع في خدمة الوطن، ولقد وجهت سمو وزير الداخلية بالتأكيد على أمراء المناطق باستقبال المواطنين والاستماع لهم ورفع ما قد يبدونه من أفكار ومقترحات تخدم الوطن والمواطن، وتوفر أسباب الراحة لهم».
«إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة»، هكذا يمكن وصف أسلوب الملك سلمان القيادي الذي نلحظه في قراراته الجريئة والحاسمة والمناسبة. بدأها منذ اليوم الأول لتوليه سدة الحكم بتركيز المجالس والهيئة الحكومية المبعثرة واختصارها في مجلسي الأمن والشؤون السياسية والاقتصاد والتنمية لرفع مستوى التنسيق الوطني في مجالي التنمية الاقتصادية والأمن الوطني. ليمثل المجلسان نافذة نطل منها على حاضرنا ونستشرف مستقبلنا ومن ثم التحرك في الاتجاه الصحيح.
إنشاء المجلسين إعلان صريح ببدء نهج جديد في جهود الإصلاح الإداري، نهج يتناسب مع وقع المتغيرات ومتطلبات العصر والأهم يربط بين التكوين الإداري والاستجابة لاحتياجات ومشكلات المجتمع والموازنة بين متطلبات الحاضر واستحقاقات المستقبل. لقد أصبح لدينا رؤية شمولية للواقع الوطني نتعرف من خلالها على نقاط القوة والضعف والفرص والتحديات. إنها البوصلة التي ستوجه العمل الوطني التنموي وتحدد أولوياته بما يتفق واحتياجات المجتمع. إن تركيز النشاط الاستراتيجي للعمل الحكومي في مجلسين يحدد المسؤوليات ويحظى بمتابعة المواطنين. بل إن المجلسين يمثلان غرفة عمليات لإدارة التنمية الوطنية ومتابعة المشاريع والسياسات الحكومية، ما يجعل الوزراء تحت ضغط عالٍ ومستمر لإنجاز مهامهم على الأرض، وهو أمر لم يكن يحدث في السابق على الأقل مؤسسياً. هذه المتابعة المهنية من خلال المجلسين ستدفع وتحفز المسؤولين الحكوميين لعمل الأفضل كما ونوعا وجودة. ما نشهده من إصلاح إداري يرتكز على تحول سريع وعملي من خلال حكومة تكنوقراط برؤية ومؤشرات أداء واضحة ومتابعة مهنية دقيقة. إنه عهد جديد مبني على العمل والإنجاز ولا غير! لم يعد التضخيم الإعلامي والأنشطة الشكلية تكفي للحصول على تقييم أداء عالٍ. فالملك سلمان رجل متمرس وصاحب تجربة إدارية ثرية وعملي ومنظم حتى النخاع ويهوى الإنجاز ولديه معيار مهني يحكم فيه على أداء القيادات الإدارية. لقد أضحى جليا أن هناك عزما لمواجهة المشكلات المجتمعية برؤية مؤسسية تطور صناعة القرار الحكومي وتجعله أكثر استجابة لمطالب وتوقعات المواطنين. وكأن شعار المرحلة هو جعل الأجهزة الحكومية في خدمة الناس وليس للاستحواذ البيروقراطي أو الهيمنة والسيطرة والحصول على أكبر حصة من الموارد المتاحة.
وسياسة المملكة التي تنطلق من عدم التدخل في شؤون الغير لا تعني التخلي عن قيادة العالم العربي والاسلامي، ولذا يؤكد حفظه الله «أننا سائرون إلى تحقيق التضامن العربي والإسلامي بتنقية الأجواء وتوحيد الصفوف» وهذا دليل على أن الدولة السعودية دولة طهورية تبغي الخير وتنشره وتبذل في ذلك الأموال الطائلة من أجل إعمار الأرض وتحقيق السلام والازدهار في العالم الاسلامي. السعودية التي أوجدت نموذجا في وحدة البلاد الإسلامية وصدت العدوان عن الكويت وحققت السلام في لبنان عبر اتفاقية الطائف هي اليوم تسعى لتحقيق الأمن والاستقرار في اليمن وسياستها كانت وما زالت واضحة قولا وعملا هي عدم التدخل في شؤون الغير، وبقيت على الحياد إلا كقوة خير تنهي صراعا أو تعيد حقا لأهله. هذه الطهارة والخيرية في السياسة السعودية تستمدها من دستورها القرآن والسنة، وهو مصدر قوتها ونقائها ولحمتها الوطنية الذي لا تنفك عراه لأنها تحكم بشرع الله وببيعة شرعية. ولذا اختارها الله لخدمة الحرمين الشريفين.
وتحدث عن الأمن يحفظه الله بلغة صريحة ورؤية تشاركية جماعية « الأمن مسؤولية الجميع، ولن نسمح لأحد أن يعبث بأمننا واستقرارنا» وهو أمر في غاية الأهمية يجب أن يدركه الجميع لانه احد أهم المصالح العليا للوطن ولا يمكن تحقيقه الا بتضافر الجهود من منطلق الانتماء والحرص على ألا يخترق الصف الوطني والوقوف في وجه الأعداء.
وعلى أنه يحفظه الله أكد على تعزيز الثوابت الوطنية إلا أنه أشار إلى أهمية أن «يستمر التحديث وفقاً لما يشهده مجتمعنا» وهو ما يعكس رؤيته في التكيف مع المستجدات والاستفادة من التطور الصناعي والتقني واحتواء المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية.
هذه قراءة سريعة لخطاب الملك سلمان نستشف من خلالها أسلوبه القيادي والقيم السياسية للنظام السعودي والذي على الجميع ادراكه خاصة في ظل الظروف التي تواجه المملكة وتربص الأعداء والحاقدين. حفظ الله المملكة قيادة وشعباً.
- مدير جامعة شقراء المكلف