سعد بن عبدالقادر القويعي
يُقصد بالتشدد في العقوبات الحدية الزجر، والردع، وهو ما يتحقق بأقل حد ممكن من التطبيق. - وعليه - فإن دفع العقوبة الحدية بمدفعها الشرعي على مستوى تطبيق القضاء، يقتضي عدم تطبيق العقوبة الحدية على المتهم، ما لم تتحقق في فعله كل شروط إيقاع العقوبة الحدية، وتنتفي عنه كل موانع إيقاعها، انطلاقاً من قاعدة: «درء الحدود بالشبهات»، التي قررها أغلب الفقهاء، إذ يقول المازري - رحمه الله -: «صان الله الأموال بإيجاب قطع سارقها، وخص السرقة لقلة ما عداها بالنسبة إليها من الانتهاب، والغضب؛ ولسهولة إقامة البينة على ما عدا السرقة، بخلافها، وشدد العقوبة فيها؛ ليكون أبلغ في الزجر»، ومثله يقول ابن القيم - رحمه الله -: «ومن المعلوم: أن عقوبة الجناة، والمفسدين لا تتم إلا بمؤلم يردعهم، ويجعل الجاني نكالاً، وعظة لمن يريد أن يفعل مثل فعله»، ومثله - أيضاً - يقول ابن عبد السلام - رحمه الله -: «من أمثلة الأفعال المشتملة على المصالح، والمفاسد، مع رجحان مصالحها على مفاسدها قطع يد السارق، فإنه إفساد لها؛ ولكنه زاجر حافظ لجميع الأموال».
ولذلك نجد أن الكثير من الجنايات التي لم تبلغ في حجمها، وشدتها درجة الكمال، أصبحت تلك الجنايات في كثير من الأحيان، غير مكافئة للعقاب الذي قدّره الشرع؛ لأن هذا القصور في درجة الجناية معتبر في نظر الشريعة شبهة، وهذه الشبهة يُدفع بها الحد، كما يقول ابن المنذر - رحمه الله -: «وأجمعوا على أنَّ درء الحد بالشبهات»، ويقول العز بن عبد السلام - رحمه الله -: «الشبهات دارئة للحدود، وهي ثلاثة: إحداهن في الفاعل، وهو ظن حل الوطء، إذا وطئ امرأة يظنها أنها زوجته، أو مملوكته. الثانية شبهة الموطوءة، كوطء الشركاء الجارية المشتركة. الثالثة في السبب المبيح للوطء، كالنكاح المختلف في صحته».
قبل أيام، تصاعدت قضية الحكم بحد الكفر ضد - الفنان الفلسطيني - أشرف فياض، بسبب ديوان شعري أصدره عام 2008 م، وقد تعقب عضو مجلس الشورى، والقاضي السابق - الشيخ - ناصر بن داود الحكم كما نشر في عدد صحيفة الوطن برقم «5540»، بأنه قد حصل قبل استيفاء إجراءات لازمة، كان على القضاة التحري عنها قبل إعلانه، وهي عدم تحري القضاة عن حالة أشرف فياض النفسية، كما نبه على ذلك الشهود في شهادتهم، وهذا مؤثر في سلامة الحكم، ولا بد منه. وعدم إحالة النصوص المشتبه فيها إلى شاعر ثقة؛ ليفسرها بحسب الخبرة، كما فعل عمر - رضي الله عنه - مع شعر الحطيئة لما هجا الزبرقان. ثم إن قضاة النظر، والاستئناف اعتمدوا على فهمهم للنصوص، وهذا من القضاء بالعلم، فصاروا بذلك شهوداً، وقضاة في آنٍ بلا ضرورة، ولا حاجة، مع وجود الخبراء. - إضافة - إلى امتلاء الصك بالأخطاء الإملائية، والنحوية، - فضلاً - عن أخطاء في الصياغة، وحبك العبارة، بما لا يليق بالقضاة، ولا بالمحاكم، ولا بالقضايا ذات البعد العالمي. كما أن القاضي المتجرِّد المحايد، لا يفرح باستعجال الحكم، ما دام للمتهم سبيل نجاة، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم»، فالقاضي ليس منتقماً، ولا متصيداً لأخطاء الناس، وكل بني آدم خطاء.
إن أساس مشروعيه العقوبات الحدية في الفقه الجنائي الإسلامي ليس الانتقام، أو التشفي من الجاني، بل القصاص العادل منه، وزجر غيره من الاعتداء على حياه الناس. وهي سمة من سمات الكمال المطلق في شريعة الإسلام؛ لأن تلك الشريعة الكاملة المُثلَى التي جاءت لإحقاق الحق، وإزهاق الباطل، ودفع الظلم بكل صوره، وأشكاله عن العباد، حريصة على ألا تمتد آثار بعض العقوبات إلى كل الأفراد، الذين يعيشون عالة على المذنبين. ثم إن الإسلام السمح لا يتربص بالبشر، ولا يتحسس عليهم؛ للكشف عن معاصيهم، ثم توقيع العقوبات عليهم. وإذا لم يكن ثمة مناص من تنفيذ العقوبة المقدرة، فإنه - لا شك - أنه ينبغي أن تأتي الجناية مكتملةً على التمام، لا تشوبها شائبة من نقص، أو ضعف، أو انخرام، وإذا وقع شيء من ذلك، اعتبرته الشريعة شبهةً دارئةً للحد؛ ليقوم مقامَ الحد عقاب دون ذلك، وهو التعزير.
بقي أن يُقال: حرص الإسلام على التماس الشبهات؛ لدرء الحدود عن العباد ما أمكنَ؛ كأن تكون الشبهة محتملة غير مطلقة، أو أن تكون قوية المدرك، مسقطةً للحد، وأن تقع على الفعل، أو الفاعل، أو المحل، أو البينة؛ لأن مجالَ تطبيق أحكامها ضيقٌ جداً، وما ذلك إلا رأفةً، ورحمةً من اللهِ بالعباد، فهي بابٌ من باطنِهِ الرحمةُ، ومن ظاهرِهِ العذابُ؛ ولأن الخطأ في عدم العقوبة، خير من العقوبة في ظلم. ثم إن تضييق دائرة العقوبة الحدية، يتضمن درء الحدود على المستوى التشريعي، وعدم اعتبار النظام القضائي العقوبة المعينة عقوبة حدية، ما لم يجمع عليها الفقهاء، كما يتضمن درء الحدود على المستوى التشريعي، اختيار الأيسر؛ تطبيقاً لقاعدة: «التيسير»، والتي دلت عليها جملة نصوص.