لطالما كان الشِعرُ رفيقَ المشاعرِ، يترجمُ من خوافي النفسِ إلى بيانِ البوحِ الذي هو مؤشرُ الانفعالات وتقلّبات النفس، فيأتي مراتٍ عذباً رقيقاً ومرّاتٍ قويّاً صارماً وأحياناً زاجراً ناهياً وأُخرى معتزّاً متفاخراً وغير ذلك من أوجهِ الشعرِ وأغراضِه.
ولا شك أن الحربَ أشدُ الأمورِ ثقلاً على النفس منذُ أقدم العصورِ مع ما كان يصاحبها من تحريض ونعرات وعداوات وتعصبات جاهلية، وإن كانت غالباً تتوافق مع شِيَمِ العرب التي لا ننكرها ولا نعارضُها وخصوصاً أن جُلّها حمايةٌ لمستجير ونصرةٌ لِحقٍ مسلوب أو ردعٌ لظالم، ولكنها رغم ذلك لم تكن تخضع لمبادئ إنسانية أو حدود دينية، لذلك فالحربُ أشدُ وقعاً على النفسِ عندما تُفرضُ على مَن يحترمُ المبادئَ ويتحلّى بالشِيَمِ ويتمسّكُ بالقِيَمِ كإنسان ويدينُ بدينِ المحبةِ والسلام «دينِ الإسلام» كمسلم، لكنها عندما تكون متعلقةً بإغاثةِ ملهوف ونُصرةِ جارٍ وزجرِ غاشمٍ وإحقاقِ حقٍ وحمايةِ حدٍ فإن النفوسَ المؤمنةِ الصادقةِ تُقْدمُ بكلِ عزمٍ وتتقدّمُ بكلِ ثقة في ظلِ قائدٍ مُحنّك وحاكمٍ متبصّر.
وإن سجّل الشِعرُ أيامَ العربِ وحروبِها فإنهُ لا بد أن يقفَ ليسجلَ يوم العزمِ في عاصفةِ الحزم، وقد أبدعَ الكثيرُ من شعراءِ الوطن والأمةِ المخلصين جهاداً بالكلمةِ وأنصفوا الحدث بروائعهم، ولكن تبقى لصاحب (سمان الهرج) الشاعر الكبير سعد بن جدلان لمسةُ الإبداع المتميّزة حين قال:
تمطر سماهم من سحاب التعاون
ويسيل دمع ايران من برق سلمان
ولا حَسبنا خمس طلقات هاون
ما غير جمر لمبخرة طِيب نجران!
وإن تبادرَ للذهنِ بكلمة تمطر كثرةُ القذائف والصواريخ والقنابل - وهي تحمل ذلك المعنى عموماً - ولكنها وبتوظيفٍ أدقّ كانت تشيرُ إلى معنىً أوسع وأشمل، فكلمة مطر وردت في القرءان في سياق العذاب والانتقام فقال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}، وقوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ}، وغيرها من الآيات، ولا أشك أن الشاعر أرادَ هذا المعنى فيما أراد الذي هو أشملُ وأبلغ ُ ويمهّدُ لمعاني لاحقةٍ ذكرها الشاعر في البيت، فهو لا يريدُ أن يُورِدَ لفظاً دارجاً معهوداً في سياقاتِ الحربِ (كـ ترمي وتقصف مثلاً) ولكنه وظّفَ لفظاً يطرقُ المعنى الأوسع َ للحرب والقوّةِ ولم يقل من سلاح (كـ ترمي عليهم من سلاح..) - في حال استخدامه لـ ترمي أو تقصف- بل جاء بالسحاب الذي يحملُ الخيرَ وكأنه يشيرُ إلى معنى الآية (سُقناهُ إلى بلدٍ ميّت) - وهو يكاد في أتون التدخل الإيراني - مع ما يتصف به السحاب من علو ورِفعة وسمو، ويذكر التعاون في إشارةٍ لمجلس التعاون ودول التحالف عموماً.
ثم يشير إلى أن الحرب لم تكن إلاّ نُصرةً لليمن العريق ضد عملاءِ إيران لذلك قال: ويسيل دمع إيران.. وعِوضاً عن ما يتطلّب سياق المطر من سيل فيورِد يسيل دمع إيران العدو الحقيقي الذي لم يُرِد ذِكره إلاّ لإيضاح حقيقة، ليعود بعدها مباشرةً لتأكيد السياق السابق تجاه إخواننا اليمنيين الشرفاء فيقول: من برق سلمان! ليشير إلى المعنى في قوله تعالى {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} فبرق سلمان أيضاً مثلما يخيف إيران ويُبكيهم فهو يبسط لشعبِ اليمن أرض الأمنيات بمستقبلٍ مشرق بتوثيق التقارب وتأكيد الإخاء بين الشعبين السعودي واليمني اللذَينِ تجمعهم المِلّةُ واللغةُ والأصلُ والجِوار.
ثم يقولُ بمنطقِ الواثق بنصرِ الله وبلغةِ الصنديد أن محاولات التمرّد العبثية بإطلاق قذائف الهاون لا نراها تعدو كونها جمراً لمبخرة نجران الطِيبِ والشجاعةِ والإباء.
وبتطبيق نظرية م/ع التي ابتكرها الأستاذ الأديب خشان الخشان نرى مصداق ما تحدثنا عنه من انفعالات في الأبيات:
تمطر سماهم من سحاب التعاون
تمـ طر سما هم من سحا بت تعا ون
2* 2* 3 2* 2* 3 2* 3 2* = 6 /3=2
وهي نيرة عالية عن الرقم 1 الذي هو مؤشر الاعتدال وهي درجة من الانفعال تناسب استفتاح الأبيات ضمن هذا الغرض بما فيه من اعتزاز وقوة وحديث عن الحرب.
ويسيل دمع إيران من برق سلمان!
ويـ سِيـ لدم عيـ را نمن بر قسل ما ن
2* 2 3* 2 2 3* 2* 3* 2=5/ 4=1.25
هنا ينخفض المؤشر عند الحديث عن إيران ودمع العجز مع ما ألمحت إليه مما يحمل البرق من معاني الطمع والأمل.
ولا حَسبنا خمس طلقات هاون
ولا حسبـ نا خمـ سطلـ قا تها ون
3 3* 2 2* 3* 2 3 2* =4/4=1
يصل إحساس الأبيات إلى حالة الاعتدال والاستقرار لِما يحمل من ثقة ورباطة جأش.
ما غير جمر لمبخرة طِيب نجران!
ما غيـ رجمـ رل مبـ خرة طيـ بنجـ را ن
2 2* 3* 2* 2* 3* 2 3* 2=6/3 =2
ثم يعود المؤشر إلى الارتفاع تماماً كمُفتتح الأبيات بالقيمة 2 مع ارتفاع مستوى الحديث من الثقة والتماسك إلى الانتشاء والترفّع.
وقد كانت الأبيات صادقة الشعور وتؤدي المعنى بأبهى صورِه وتجسّد شعورنا جميعاً ثقةً واعتزازاً.
- ماجد الغامدي