عبدالواحد المشيقح
يشدني أمر، أو يستثيرني موضوع أسرع إلى قلمي، أُسر إليه... وأسائله... وأفوضه ببوح مكنوني? هو أمين في نقله، دقيق في وصفه، سريع في تحقيقه المطلب.
لا أجد غلظة أو فظاظة أو امتناعا في تحقيق الطلب منه، أو خجلا من تكليفه، أو ترددا منه في ذلك.
الصداقة بيننا عريقة، حكايتها تبدأ مع علاقتي بالحرف، منذ وقعت عيني على الحرف العربي كان ارتباطي به، يجسم ويوضح ما يعجز اللسان عن النطق به أو يخجل الصديق من عرضه.
لم يكن بيننا عتاب حاد طيلة الزمن الذي مضى، أعتبره خلال تلك المدة الصديق الوفي يحقق مطالبي ويحرر رغباتي بكل استجابة.
وجاءت اللحظة التي تلكأ فيها عن الكتابة.
أهو نقص في المداد؟
أم خلل في اللعاب؟
بم أفسر ذلك الامتناع؟
استوقفني.... قرأ في ملامحي حجم الاستغراب الذي تشكل لحظة تلكئه عن الكتابة.
فبادرته. لم أعهد فيك عزيزي هذه الجفوة؟
أجاب. مهلا صديقي.
إنكم معشر البشر لا وفاء عندكم ولا تقدير، فالخالق جل علاه أكرمنا معشر الأقلام بأن أقسم بنا {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}، وورد ذكرنا في أكثر من موقع في كتابه العزيز.
كنتم معشر البشر تقدرون حجم الألفة والمودة المشتركة بيننا، يتشبث أحدكم بقلمه طيلة حياته، ولا يتخلى عنه إلا لأحد أمرين: إما بالضياع واستحالة العثور عليه، أو إصابته بعطب لا يمكن معه إصلاحه، والآن كم من قلم يستبدله الشخص في العام الواحد!، بل أصبح القلم في الوقت القائم مؤقتا لا ألفة أو ارتباط بين القلم ومالكه.
بل الأدهى أن القلم أصبح زينة وكمالية، فأوقف عن ممارسة مهامه، واستبدل مكانه بلوحة مفاتيح الكمبيوتر والهاتف الجوال.
حاولت مقاطعته لأخفف من انفعاله وتهجمه.
تلك سنة الحياة يا صديقي. كان القلم من أعواد القصب، يبرى رأسه ويستخدم كريشة للكتابة بالمداد، ثم جاء اخترع قلم الرصاص في القرن الثامن عشر، فالقلم المعدني فالمذهب ثم الإلكتروني وأخيراً لوحة الكمبيوتر وسيأتي مستقبلا أمر آخر.. لكن سيظل القلم حاضرا وشاهدا بعلاقته بالبشر.
هل تعلم صديقي القلم أن خلقنا من مادة واحدة، فأنت من الجرافيت أو الكربون المخلوط مع الطين، مغلفا بالخشب أو البلاستك، ونحن بني البشر خلقنا كما تعلم من الطين.
ثم رسمت مجرى آخر للحديث للاستثارة والحصول على معلومات من خلال الرصد والخبرة التي يمتلكها.
عزيزي القلم بحكم علاقتك بالتدوين وبأصناف الكتّاب : كيف تقرأ نشاط البشر الفكري البشري؟
عن أي نشاط أتحدث يا صديقي؟ عن الإنتاج الفكري القديم أو الحديث؟ عن كتّاب الصحف وزواياها؟ عن الكتابة العبثية؟
وجدته مسترسلاً في التصنيف، مما يعني الحاجة إلى وقت أكبر في الاستعراض والشرح فاستوقفته..
حسبك صديقي يكفيني تغطية ما طرحت من نماذج.
سألني: وهل ترغب في المصارحة؟
بكل تأكيد.. فتحدث وكلي آذان صاغية.
من يقارن بين تراث الأقدمين عندكم ونتاج المعاصرين فيكم يلاحظ بونا شاسعا بين الفئتين في الأسلوب والمنهج، والمنتج، يمكن اختزال ذلك الفارق في نقاط:
- عمق الطرح، وشمولية الأفكار، وامتداد مكونات الفكرة المطروحة في تراث الأقدمين، تحت ما يمكن تسميته بالشمولية أو الموسوعية.
- الحياد في النقد والمناظرات لديهم، واحترام الطرف الآخر فيهم، وتحديد الرؤية بكل شفافية.
- البعد عن الذاتية والتمجيد الشخصي - والتي تصل للنرجسية - وإعطاء أصحاب الفضل أسبقيتهم وأستاذيتهم في الطرح مهما كانت مكانتهم ومنطلقاتهم.
- الأمانة في النقل والاستشهاد، واحترام العلم والعلماء أنىّ كانت توجهاتهم.
قليل فيكم من يعرف قيمة تراثكم أيها العرب، لا يدرك ذلك إلا من وفق إلى الدراسة الموسوعية المتزنة، بل الغالبية فيكم لا يلتفتون إلى كنوز التراث العربي والإسلامي جهلا ومكابرة، ويجدونه هزيلا، ويرون الوقوف عنده من أسباب التخلف الذي يجثم على حياتهم.
انظر لشهادة أبرز فلاسفة العصر فيكم كيف يحدد قيمة التراث، «الدكتور زكي نجيب محمود - فيلسوف العصر - يعترف بقصور معرفته بتراث أمته في آخر مشواره، ويلوم نفسه على ذلك، فيذكر في أحد فصول كتابه «في تجديد الفكر العربي» لم تكن قد أتيحت لكاتب هذه الصفحات في معظم أعوامه الماضية فرصة طويلة الأمد، تمكنه من مطالعة صحائف تراثنا العربي على مهل، فهو واحد من ألوف المثقفين العرب الذين فتحت عيونهم على فكر أوروبي - قديم أو جديد - حتى سبقت إلى خواطرهم ظنون بأن ذلك هو الفكر الإِنساني الذي لا فكر سواه، لأن عيونهم لم تفتح على غيره لتراه، ولبثت هذه الحال مع كاتب هذه الصفحات أعواماً بعد أعوام: الفكر الأوروبي دراسته وهو طالب، الأوروبي مسلاته كلما أراد التسلية في أوقات الفراغ....
استيقظ صاحبنا - كاتب هذه الصفحات - بعد أن فات أوانه أو أوشك، فإذا هو يحس الحيرة تؤرقه فطفق في بضعة الأعوام الأخيرة التي قد لا تزيد على السبعة أو الثمانية، يزدرد تراث آبائه ازدراد العجلان كأنه سائح مرّ بمدينة باريس، وليس بين يديه إلا يومان، ولا بد له خلالهما أن يريح ضميره بزيارة اللوفر، فراح يعدو من غرفة إلى غرفة، يلقي بالنظرات العجلى هنا وهناك، ليكتمل له شيء من الزاد قبل الرحيل..».
وماذا عن كتّاب عصرنا؟
أما عن كتّابكم المعاصرين، ومدعي الفكر فيكم فهم ينطلقون فوق قضبان هشة، لا تحقق لهم العمق والتوازن، يميلون إلى توظيف العبارات والأساليب المخملية التي تقوم على الإثارة وحب المصادمة مع الأخر، دون رسم رؤية محددة الأهداف، يعتمدون في انطلاقتهم الفكرية على مظلة نماذج من النقاد الذين يضيئون لهم الشموع الخافتة. إن أشبه ما يمكن وصف إنتاج بعضهم بفقاعات البحر التي ترسم أحجاما وتنتهي.. ألا ترى عزيزي أنك تتحدث بعاطفة وتعميم جائر تظلم به كثيرا من كتاب عصرنا.
عفواً صديقي. ألا توافقني بأن الغالبية من كتابكم المعاصرين مولعين بعشق التجديد في الفكر. ممن يجهل منطلقاته وأصوله، هم على جهل بمعرفة فكر الأمة وتراثها وتاريخها المشرق، يتخذون من مبرر التجديد والدعوة له لفت للأنظار تجاههم، رغبة في تحقيق الزعامة الفكرية والعلمية في محيطهم. وفي تحقيق المكانة الريادية داخل المجتمع. يتخذون من الثناء على مكونات الفكر الأجنبي أداة وبوصلة.
حقاً عزيزي أنك غير محايد، فلفظ الغالبية تعميم لا أوافقك عليه، لكن قل لي عزيزي ما سبب ذلك؟
إن سبب الضحالة الفكرية التي تعاني منها حياتكم الفكرية المعاصرة - كما يقول أحد كتابكم، وتصطبغ في إنتاجكم الفكري والثقافي. «هو أنكم تعطون مساحةً أكبر لتزويق الكلمات وللبلاغة والنحو أكثر من الاهتمام بالمضمون الفكري» هذا إن تحقق هذا الوصف.
صديقي. لو أن سِفرا قديما، أو مذهبا أو تشريعا قائما - غير دينكم الإسلامي وقرآنكم الكريم - وافقت بعض بنوده المدونة حقيقة علمية تُكتشف لكان هذا منطلقا في تدافع إقبال المجتمعات المعاصرة على أتباعه وتطبيق أحكامه. وقرآنكم الكريم وسنتكم النبوية يتفق صدق أخبارهما مع حقائق جمة تكتشف في كل فترة.!!
شيء طبيعي عزيزي أن يحارب أي نشاط من قبل خصومه وأعدائه.
نظر القلم إلي بحدة وانفعال ثم استرسل.. هل تعلم صديقي ان أصعب وأعتى خصوم الفكر الإسلامي يتمثل في بغض منسوبيه الذين يتلفظون بالانتماء من مختلف الاتجاهات .. وبدأ بسرد مقتطفات من مقولات بعض الكتاب. قلت له: وماذا يا صديقي عن كتاب الصحف؟
قال لي: يحتاج الحديث عنهم للرصد والدراسة النقدية، والاستشهاد بنماذج لذلك. فبعضهم يكتب في صحفكم عقودا من الزمن بواقع مقال أسبوعي، وإن اجتهدت في البحث والتأمل ستجد أن كثيرا مما نشر له لا يستحق النشر. ثم أردف قائلاً: إن الحكم على جودة وإجازة المقال، ومدى صلاحيته للنشر - بصرف النظر عن كاتبه - لا يمكن أن يخرج عن شرط تحقيق بعض السمات من خلال «مستوى معالجة الفكرة، ودرجة الأسلوب، وصحة المفاهيم والدلالات، ووضوح الهدف، ودرجة الرؤية والتصورات، وترابط الأفكار، وشمولية ودقة المعالجة، وانتهاج منطق الواقعية، وسلامة اللغة، والالتزام بالمصداقية».
لن أتحدث هنا عن المبتدئين في الكتابة، فهؤلاء قد يبحث لهم عن عذر في بعض السقطات، ويبرر الحال بأنه قد يصلح الزمن والتجارب بعضها وتتسع مساحة الرؤية لديهم فيما بعد.
لكن القضية تكمن فيمن يمارس الكتابة ويطل بصورته الشخصية، ومستوى قدراته الثقافية الهزيلة على مجتمع القراء يومياً أو أسبوعياً.
ويواصل قلمي حديثه.. عند تصفحك للصحف ستقع على بعض المقالات التي تمثل تجاوزات تسقط الكاتب ومقالته، بدءا من مناقشته للموضوع ومدى أهميته في الطرح والمعالجة، ومناسبته لجموع القراء بمختلف مستوياتهم واتجاهاتهم، ويعمدون إلى سد هذا الخلل بأسلوب الإثارة والمصادمة التي تبدأ باختيار عنوان المقال.
ثم توجه إليّ بتساؤل ليستشف قناعتي برؤيته :
ترى لمن يوجه اللوم وطلب الإصلاح ؟
على الكاتب؟ أم على الصحيفة؟ أم على القارئ. والمراقب أو ما تسمونه بالناقد؟
أدرك الجواب عن تساؤله.. لكني حاولت إعادة الكرة صوب مرماه.
عفواً قلمي العزيز ذكرت في تصنيفك للكتّاب «كتّاب العبثية» ، وأنا أعرف أن العبثية منهج أدبي فكري، ارتبط بالفيلسوف والروائي الروسي البير كامو، وبالفيلسوف الفرنسي بول سارتر، فمن أولئك الكتاب الذين تشير إليهم؟
نعم صديقي. العبثية منهج، وإن شئت فقل مذهب لدى البعض، ولد من رحم الفلسفة الوجودية، وكان له حضور في ساحة الفكر العالمي إبان مطلع القرن الماضي، وكانت قمة نشاطه وتأثيره مع فترة ما يسمى في تاريخكم المعرفي عصر التنوير.
مقومات نشأته جاءت - كرد فعل - على رواج الطبقية في الحياة الاجتماعية، ولسيطرة الكنيسة على مسار الفكر الغربي - آنذاك - ودخول الميكنة والأتمتة بشكل مكثف في الصناعة.
فالعبثية، ونتيجة لتلك المؤثرات صورت الإِنسان أنه في حال ضياع، فهو بوصف أحد الكتاب «لم يعد لسلوكه معنى في الحياة المعاصرة ولم يعد لأفكاره مضمون، وإنما هو يجتر أفكاره لأنه فقد القدرة على رؤية الأشياء بحجمها الطبيعي نتيجة للرغبة في سيطرة الآلة على الحياة».
ونتيجة التسويق لهذا المنهج عبر الروايات والدراسات النقدية الأدبية فترة ليست بالقصيرة كان لهذا المنهج أنصار ودراسات، خاصة انه ارتبط بالفلسفة الوجودية، إلا أنه نتيجة التحولات الفكرية وظهور مذاهب جديدة كالحداثة والليبرالية وغيرها، ولسقوط البيئة الجغرافية الأولى للاشتراكية. ضعفت الوجودية وسقطت معها فكرة العبثية بعد أن تغلغلت في مناحي الثقافة والفكر كافة « المسرح العبثي، المدرسة التشكيلية العبثية، الروايات والمسرحيات.
والغريب أنه رغم الدراسات النقدية العالمية الجادة التي تناولت دفن الاشتراكية بعد الانقلاب الذي قام به الرئيس ميخائيل غورباتشوف في البيريسترويكا فإنه بقي للاشتراكية أنصار في أقطاركم العربية، يبررون سبب سقوط الاشتراكية الحاضنة للفلسفة الوجودية بفشل التطبيق وليس الخلل في المنهج. بل إن أحدهم نظّر للقضية من أفق أبعد تتجاوز الدراسات العلمية، فنظّر لأصل العبثية ونشأتها بالعصر العباسي.
فيذكر «أغلب الظن أن المذهب العبثي في الأدب قد سبق الفرنسيين..، لأن تكريس العبثية في الأدب كان ملموساً بشكل أو بآخر عند فلاسفة العرب في العصر العباسي.
ولماذا خص العصر العباسي بالذكر يا صديقي؟
ويأتي جوابه: لأن هذا العصر هو عصر الترف الفكري والمعيشي وتحول العرب بأشعارهم وآدابهم من الطور البدوي إلى الطور الحضري ومن حياة الترحال إلى الحياة المدنية والاستقرار والتعايش والاندماج مع ثقافات وحضارات شتى....
ويضرب لذلك مثالاً: أشهر الشعراء في تلك الحقبة الزمنية المليئة بالتحولات شاعر الخمريات الشهير الحسن بن هانئ المعروف بلقب (أبي نواس)!!!
لكن قلمي العزيز. العبثية في صورتها الأولى المرسومة بمبادئها وأنصارها قد ضمرت ولم يبق فيها سوى أسطر من سفر، محدودة الرؤية، ينادي بها بعضهم دون إدراك لخطورتها على الفكر وحياة المجتمع.. نعم لكن بعضا من كتاب الزوايا ورثوا من العبثية مجرد التحرر من التراث ومواجهته ولو كان المستهدف تشريعا سماويا، أو نبذا للتقاليد والانسلاخ من الماضي أو كان مرتبطا بالقيم الإيجابية.
هنا نقف أمام هذا التيار العبثي الذي يسلب من الإِنسان كرامته واعتزازه بدينه وقيمة وإيمانه بربه وحرصه على وطنه. فهل تريد إضافة؟
استأذنت قلمي بالتوقف.