د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
اعتمدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم «اليونسكو» العرضة النجدية السعودية ضمن لائحة التراث العالمي الشفوي؛ وبذلك تكون العرضة هي الحضور السعودي الأول في لائحة الفلكلور الشفوي العالمي؛ وقد أوضحت صاحبة السمو الملكي الأميرة عادلة بنت عبد الله بن عبد العزيز رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للمحافظة على التراث «أن ذلك النجاح نتيجة للعمل التكاملي بين الهيئات الحكومية؛ ممثلة في وزارتي الثقافة والإعلام, ووزارة التعليم من خلال المندوبية الدائمة في «اليونسكو» وبين مؤسسات
المجتمع المدني ممثّلة في الجمعية السعودية للمحافظة على التراث التي تواصلت مع المجتمعات والأفراد في التوثيق والتسجيل لهذا العنصر مع عناصر أخرى للتراث غير المادي, وذلك العمل جاء ضمن مشروع توثيق هذا الجانب المهم من التراث؛ وحمايته من الاندثار».
وفي نظري أن إعلامنا الموقر وإن كان من محفزات ذلك النجاح العالمي للعرضة إلا أن التقصير إعلامياً في التعريف بذلك الشكل التراثي المحلي الذي دخل العالمية أحاط بالحدث فهذه الأهازيج المسماة بالعرضة المنسوبة إلى نجد التي قال فيها وفيهم الشاعر عبد الله بن خميس - رحمه الله -:
هم القوم إذ يُدعى الوفاء فإنهم
ذووه, وإن يُدعى الوغى فطلائعُ
إلى الراية الخضراء تهفو قلوبهم
لهم معمعان حولها وتدافعُ
إذا سمعوا العوجا تداعوا كأنهم
ظماء دعتها للورود شرائعُ
وما حذقوا قرع الطبول تدلها
ولكن إلى الهيجا تهيج المقارعُ
ما هي إلا نقل لنبض الحياة, وذاك النقل من خلال اطلاعي على بعض نصوصه لا يقع في نطاقات التهويل أو التوظيف الأيديولوجي الفج, بل العرضة قصيدة من مشافهة الناس, ترفض وضع المساحيق, وعادة ما تخلو من زخرف القول غرورا, وقد نبتت في بلادنا فناً خالداً جميلاً بزّ وبرز, وأتى بما أشبعه وأمتعه؛ احتفظت به بلادنا تراثاً في السلم للسلوة والذكرى, وفي الحروب للنذر والنفير حيث يطلق عليه الفن الحربي لكونه اللكنة التي يفزعون إليها عند الحروب آنذاك، والمقالة التي يصدعون لها, والمعول الذي كان المحاربون يجتمعون حوله, ويقفون وراءه وقد رافقت العرضة فتوحات المؤسس موحّد هذه الكيان الشامخ الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود فكانت تلك الأهازيج الحربية نسقاً من المستويات المتتابعة وفق نسيج حماسي يسرد تاريخاً عظيماً وبطولات أعظم, يقول أحد فوارس شعر العرضة محمد بن عبد الله العوني في يوم وقعة البكيرية:
مني عليكم يا هل العوجا سلام
واختص أبو تركي عما عين الحريب
يا شيخ باح الصبر من طول المقام
يا حامي الوندات يا ريف الغريب
اضرب على الكايد ولا تسمع كلام
العز في القلطات والراي الصليب
جونا وجيناهم كما دولة نظام
يوم البكيرية وخبرك بالشعيب
يا كاسب الطولات طير الجو حام
والذيب جر الصوت يدعي كل ذيب
ودخلت العرضة النجدية السعودية التراث العالمي، ولم تتوافر لها آليات نقدية كانت سوف تكون رافداً مطمئناً خلال المناورات مع أشكال التراث الشفهي الأخرى, ولكنها سبقت ونالت, فالعرضة ذات أوزان وبحور تختلف باختلاف أهدافها وأغراضها وأحياناً يكون للتلوين وحسن العرض وتوزيع الألحان دخلٌ في ذلك, كما أن للعرضة نسقاً تنفيذياً أورده الشيخ ابن خميس - رحمه الله - صاحب كتاب أهازيج الحرب وشعر العرضة يقول فيه: «إذا نادى المنادي بصوت الحوربة, وهرع بأعلى صوته ليستجيب له من حوله, ومن ثم يهزج بها تتفق والغرض, وتتلاءم والداعي ليردها الفريق الأول في صفه المنتظم, ثم يتلقاها الفريق الثاني في صفه كذلك, وإذا طاب لهم الصوت, وتناغم قُرعت الطبول على نحو رتيب, وتجاوب عجيب يأخذ طائفة من أهل الطبول إيقاعاً واحداً, وتأخذ الطائفة الأخرى شكلاً من الإيقاع يخالف الشكل الأول يُسمى «الاثلاث» فكأنه يثلث القرعتين الأوليين بثالثة ولكنه يعطيه نغمة وتوقيعاً مؤثراً تبدأ معه حركات الصفوف, وهز السيوف على نحو يتفق مع الإيقاع, فتراهم كتلة واحدة متحركة في نبرات أصواتها وحركات أجسامها, ونغمات طبولها آخذة حركة متسقة متلاءمة طُبعت على قدر من التوازن كأنما هي أُريدت كذا طبعاً وأصالة».
ولقد دخلت العرضة التراث العالمي تتنازع الأفضلية في التراث الشفهي فحازت وتميزت؛ إذ ارتفعت قيمة ذلك التراث لكونه تسجيلاً للتاريخ ورصداً لأبعاد الزمان وعلائق المكان آنذاك حينما كانت حزم البلاد تجتمع تباعاً بين يدي المؤسس - رحمه الله - بعد عقود من الزمان قاساها - طيَّب الله ثراه -, وقابل وعثاءها حتى هيأ الله لهذه البلاد على يديه من أمرها رشدا.
نأمل أن تكون عالمية العرضة رافداً من روافد الانتماء لتاريخ هذه البلاد وماضيها الأشم, وإضاءة من إضاءات الحاضر الأتم - بإذن الله -, وأن يحظى الحدث بكثافة إعلامية يستحقها, وبكواشف من المهتمين بهذا الفلكلور, ومضامينه الوطنية خصوصاً وممن يقومون على توثيق دقائق تاريخ هذه البلاد وتفاصيله, فقد وصل ذلك الفن للعالم فحتماً ستقوم حوله الدراسات, وتدور حول أهميته الاستفسارات, وتطرح خلال نصوصه الحوارات.