د. جاسر الحربش
أهداف التعليم الأساسية تربوية أخلاقية ووطنية انضباطية ومعرفية إنتاجية، وهذه أمور لا تقبل التسييس لأن التسييس انحياز، ولا يفسد التعليم مثل خلطه بالمقاصد والأهداف السياسية. بعد هزيمة الدولة البروسية الألمانية عام 1806م أمام جيش نابليون الفرنسي جمع الملك حكومته وسأل الحاضرين لماذا؟. قيل له إن السبب في قصور التعليم والتركيز على الغذاء والتدريب والولاء الوطني، بينما الفرنسيون يتعلمون بالإضافة إلى ذلك في أكاديمياتهم العسكرية الفيزياء والكيمياء والفلسفة والفنون. بطلب من الملك اقترح عليه أحد خلصائه لتجديد التعليم الألماني تكليف الأستاذ فيلهيلم (ويليام) فون همبولدت، الذي كان مبعدا إلى القنصلية الألمانية في إيطاليا بسبب انتقاداته ومشاحناته المتكررة مع زملائه الأكاديميين.
في المقابلة مع الملك أبدى الأستاذ المشاكس استعداده للمهمة الصعبة ولكن بشروط. نهره الملك قائلا: أية شروط، يبدو أنك نسيت مع من تتحدث. دخلت إجابة فون همبولدت التاريخ الألماني وكانت: جلالتكم، إنني أتحدث مع المواطن الألماني الأول الذي إن رفع رأسه رفعت ألمانيا رأسها وإن نكسه نكست رأسها. أعجب الملك بالإجابة وسأله ماهي شروطك، فأجاب: أن يكون التعليم للتعليم ولا تتدخل فيه السياسة والكنيسة إلا بحدود ما يخدم جميع الألمان علميا ومعيشيا وأخلاقيا وليس غير ذلك. خلال عقود قليلة بعد تكليف الأستاذ المشاكس فون همبولدت أصبحت ألمانيا منارة للعلوم والأبحاث والفلسفة والفنون في كامل أوروبا.
التعليم هي بداية استنبات التعايش الوطني وهو الغرسة الأولى. لهذا يقدم التعليم التربة والبذور والري والمخصبات في آن واحد. التلاميذ الصغار يلتحقون بالصفوف الأولى بقلوب طرية مفتوحة وعقول محايدة جاهزة للتعبئة. منذ اليوم الأول تبدأ محاولات البرمجة على الإمكانيات المطروحة للتعايش في مجتمعهم الصغير. سوف يكون بينهم التلميذ الشرس كخصوصية يحضرها معه من المنزل، وبجانبه التلميذ القلق والخائف والفضولي والمرح والذكي والغبي ، ولكل تلميذ خصوصيته الجسدية والنفسية والأسرية والاجتماعية الطبقية. لو تركوا لبعضهم سوف يسيطر التلميذ الأقوى والأشرس ومعه المتملق ويتم استعباد البقية بطريقة نزعة السيطرة الفطرية عند الصغار، وهنا يأتي دور المعلم.
البدء منذ اليوم الأول بحروف الهجاء وأشكالها يشكل الصدمة الاعتسافية الأولى لعقل ونفسية الطفل. دراسة الفوارق البدنية والنفسية والاجتماعية في وجوه الأطفال وحركاتهم ونظراتهم ودرجات الانسجام أو الرفض في تراتبية الجلوس على المقاعد، والانتباه والثرثرة أو الجزع والدموع التي يراها المعلم في عيون بعضهم، هذه الخصوصيات يجب أن تشكل الاهتمامات الأولى للطاقم التعليمي بكامله ويتم التعامل معها بذكاء. المهمة تشبه تماما متطلبات فلاحة الأرض للحصول على ثمار جيدة في نهايات المواسم. الشرط الأساس في بناء التعليم الأولي هو الشرط التربوي المنفتح على ملكات وفروقات التلاميذ الجسدية والنفسية والاجتماعية الطبقية. هذا الشرط يتطلب معلما متجردا بالمطلق من التصنيفات والأهواء المسبقة، وليس في ذهنه سوى توفير البيئة للبذور أن تتفتح بحصولها على نفس الفرصة والاهتمام بدون تحيزات مسبقة. هموم واهتمامات المعلم وميوله السياسية تخصه وحده، وفقط حينما يكون بالكامل خارج الفصل والمدرسة وقاعات الامتحان.
بعد استبعاد التسييس بكل أنواعه والتركيز على المهمة التربوية تسهل المهمة المعرفية في التعليم، أي تقديم المعلومات المرتبة منهجيا حسب فوارق القدرات الاستيعابية المختلفة للتلاميذ. أقل الطرق إنتاجية واسرعها تهربا من المسؤولية هي التلقين. عندما يوحي المعلم لتلاميذه الصغار بأن الدليل الأهم للنجابة والذكاء هو ابتلاع ما يسمع ثم استفراغه في الامتحان، هنا تنفتح في عقل التلميذ النافذة الأولى لإلغاء شخصيته ومواهبه ويسهل التحكم به فيما بعد. المعلم الببغاء هو القدوة الأولى لإنتاج ببغاءات كثيرة للوطن. بهذه المواصفات للمعلم المسيس الملقن، وللتلميذ المبتلع المستفرغ تتسرب قناعات الكبار وتصنيفاتهم المذهبية والطبقية والمناطقية إلى عقول الأجيال الجديدة، هكذا يتحول التعليم إلى مصانع إنتاج كائنات لاحمة للاستهلاك ويستمر التدجين والتفريخ. مخرجات هذا النوع من التعليم تسمى في علوم الاجتماع والاقتصاد العالم الثالث الذي يسهل التلاعب به ونهبه من قبل مجتمعات العالم الأول، مع ترك بعض الفتات لمجتمعات العالم الثاني للتمويه.
بكل هذا الكلام الكثير أردت فقط القول: على أي وطن يريد الانعتاق من التخلف العلمي والتقني والفكري أن يبعد التسييس بأنواعه الطبقية والمذهبية والمناطقية عن التعليم ويلغي التلقين المعرفي.
كلمة أخيرة أقدمها مع تهنئة وتحية ولفت نظر إلى وزير التعليم الجديد. أعرف عمقك التربوي وعقلك المنهجي وإخلاصك الوطني، فلتكن قضيتك الأولى التعليم الأولي الابتدائي، لتحصينه ضد التسييس بأنواعه. مباركة لك الثقة الملقاة على عاتقك من ولي الأمر حفظه الله. وفقك الله وحماك من الدهاليز التي سوف تتلمس خطواتك في طرقاتها كتركة تراكم عليها غبار الزمن وعششت فيها بعض الشلل الانتفاعية.