د. جاسر الحربش
المراهنة على صداقة دولة عظمى خاسرة. الدولة القوية مثل شجرة ضخمة تستظل تحتها مقابل ثمن تدفعه للفلاح، لكنها لا تحميك من السباع. لا يحمي الدول والأوطان سوى شعوبها وما عدا ذلك مراهنات مكلفة في الداخل والخارج.
لا يبدو العنوان أعلاه جديا، لكنه في منتهى الجدية. أمريكا هي ماكدونالدز رمزيا وبالمجاز. الثقافة الأمريكية غزت العالم، وأوضح مظاهرها ثقافة الوجبة السريعة. سلسلة مطاعم ماكدونالدز هي الأكثر انتشارا من نوعها في العالم. كرة من العجين محشور بداخلها كرة أخرى بطعم اللحم أو الدجاج، مع مظروف بطاطس مقلية وأصبع صلصة الطماطم والآخر مايونيز. كل لقمة تضعها في بلعومك تدفعها بشفطة بيبسي كولا. بدون النكهة المضافة لن تأكل هذه الخلطة، لكن عبقرية التسويق الاستهلاكية الأمريكية جعلتها مستساغة وعالمية. المستهلك يشبع ويشعر بلذة ما، ليست لذة الخبز ولا اللحم ولا الدجاج. التركيبة المخبرية الكيميائية المدروسة فسيولوجيا ونفسياً تنتج لذة أخرى استطاعت صرف الشعوب عن وجباتها التقليدية.
مطاعم ماكدونالدز مع عبوة البيبسي كولا مجرد رمز للثقافة الأمريكية الكاسحة. هناك الأفلام والوثائقيات ومدن الملاهي وقمصان التيشيرت وعجلات التزحلق والقبعات والأحذية الرياضية وكل ما يجتذب الشباب من الجنسين، ليس فقط في الغرب بل وفي الصين واليابان وروسيا وأفريقيا وبلاد الإسكيمو الجليدية والصحاري العربية القاحلة. سر انتشار الثقافة الاستهلاكية الأمريكية ليس في هذه المنتجات. السر هو في أن الدولة المصدرة لهذه الثقافة هي أيضا الدولة الأقوى في علوم الفيزياء والكيمياء والكون والإعمار والتدمير واستنباط أفضل الحلول لعلاج الأمراض المستعصية، بالإضافة إلى كونها الأسرع إيقاعا وتعديلا وتبديلا والأكثر سيطرة على كل أنواع البرمجة وغسيل الأدمغة. لو أن دولة ضعيفة قدمت نفس الوجبة ونفس المشروب ما نجحت.
القوة العلمية والإعلامية والعسكرية وإيقاع التعامل السريع مع الزمن، ذلك ما جعل أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية تجمع بين الحلم والكابوس. أمريكا حلم لكل عبقري من دول العالم الثالث يبحث عن تحقيق الذات، وهي في نفس الوقت كابوس لحضارته التي يريد الفرار منها لأمريكا.
الانحسار وتآكل المصداقية وتوتر التعايش الداخلي يبدأ عادة بمؤشرات ولا يحصل فجأة وبدون مقدمات. بداية المؤشرات الأمريكية على ذلك تظهر في كون التعصب العرقي المتمثل في استسهال قتل الأمريكيين السود برصاص الشرطة البيض يتصاعد بشكل ملحوظ. المؤشر الآخر هو التحيز الإعلامي المتفلت الذي يشارك في التحريض على الأمريكيين المسلمين بالجملة بدون التعرض للمساءلة التي يضمنها نظريا القانون الأمريكي. أصبح باستطاعة الإعلام الأمريكي وبدون محاسبة قانونية تحويل قضية فردية إلى تهمة عقائدية أو عرقية تشمل جميع المنتمين للمتهم في القضية الفردية.
نجحت الحكومات الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى سقوط القوة الكبرى المكافئة في المزج بين ثقافة ماكدونالدز والجبروت العسكري والعلمي. بعد سقوط الاتحاد السوفييتي بدأ التنظير الاستخباراتي الأمريكي يبحث عن عدو بديل. العقلية الأمريكية تحتاج دائما إلى محفز للتحدي. الصين قضية مؤجلة بسبب الخوف من العواقب، لكن عالم المسلمين يعرض نفسه كعدو بديل وسهل، لأنه متصارع مع مكوناته الذاتية ومخترق ومكبل إما بالديون أو بالمعاهدات، أما الصين فليست كذلك. أول اختبار حقيقي لتحطيم العدو البديل كان وصول المجرمين الثلاثة بوش ورامسفيلد وتشيني إلى مفاصل الإدارة الأمريكية، والحديث هنا ليس معنيا بكيفية وصولهم، فالعالم يعرف ويخاف من الكلام ويصمت. نتائج التحدي نعيشها الآن، فبلداننا دمرت وجيوشنا سرحت وملاييننا قتلت وشردت إلى المنافي الداخلية والخارجية.
لكن الولايات المتحدة الأمريكية توليفة عرقية لا يمسك بتفاصيلها سوى الدستور الأمريكي الواضح والعادل منذ المصادقة الأولى عليه ثم بالإضافات المكملة له. انتهاك هذا الدستور بدون عدالة في المحاسبة بدأ يحول العرقيات الأمريكية المختلفة إلى براميل متفجرات. هذا ما يحدث حاليا مع اللاتينيين والسود والمسلمين والعرب، وذلك هو أخطر المؤشرات على بداية تآكل الثقافة الأمريكية. الآن وصلت دائرة العنف والعنصرية إلى الداخل الأمريكي نفسه، باستعداء مكوناته إعلاميا على بعضها البعض، ورب ضارة في مكان نافعة في مكان آخر.
أختتم بما بدأت به لمدة سبعة عقود استطاعت أمريكا مزاوجة ثقافة الماكدونالدز والبيبسي كولا بالقوة العسكرية والعلمية والإعلامية وبعرض الاستظلال بظلها مقابل أسعار باهظة.
حاليا، دونالد ترمب الأبيض وبن كارسون الأسود يتصدران الساحة الانتخابية الإعلامية في أمريكا، وكلاهما عنصري مقيت ومع ذلك يفوزان بالقبول الشعبي الأكبر. دونالد ترمب ربما يصبح أداة الفصل بين ماك كوجبة سريعة ودونالد كثقافة، بداية بين الأمريكيين المسلمين والمسيحيين وبين اللاتينيين والأنجلو ساكسونيين. المرشح الأسود المتاجر بمسيحيته المكتسبة بن كارسون تحول بالفعل إلى عامل فرقة بين الأمريكيين المتحدرين من أصول أمريكية. لا أحد منهما سوف يفوز بالرئاسة ولا أي مرشح جمهوري آخر، فهي محسومة لهيلاري كلينتون، لكن بذور العنصريات التي تنثرها الدعايات الانتخابية الحالية سوف تنبت وتزهر.