مشايخ ومختصون: تشويه المواقع الأثرية يكشف ضعف الوعي بقيمتها التاريخية والحضارية ">
شهدت الكثير من المواقع الأثرية في السنوات الماضية أعمال تشويه متعددة شملت الكتابة عليها أو هدمها أو إزالتها، في تصرف يكشف تدني الوعي لدى فئة من الناس حول أهمية الآثار وكونها سجلاً حيًا لتاريخ الوطن وحضاراته السابقة.
وفي حين تحرص الدول المتقدمة على صيانة آثارها والمحافظة عليها والاهتمام بها يعمد الكثير من الناس وخصوصًا المراهقين بتشويه آثار وطنهم أو إزالتها.
فما هي الآثار السلبية لهذه التصرفات؟ وما أسبابها؟ وما أهمية المحافظة على هذه الآثار؟
تعدٍ على ثروات حكومية
بداية يؤكد معالي الشيخ عبدالله بن محمد المطلق عضو هيئة كبار العلماء المستشار بالديوان الملكي، أن التعدي على الآثار وتشويهها هو خيانة وتعدٍ على وثائق تاريخية حضارية يجب أن نحسن استغلالها، مشيرًا إلى أن التعدي على الآثار تعدٍ على ثروات حكومية.
ويقول في تصريح صحفي سابق عقب اطلاعه على أعمال التنقيب الأثري في عدد من المواقع بمحافظة العُلا: «إن كل هذا يضر ويفسد وثائقية الآثار، فهؤلاء يجهلون قيمتها ويسيئون استخدام زياراتهم للمواقع الأثرية، وما يقوم به هؤلاء هو خيانة وتعدٍ، وضد حفظ هذه الآثار باعتبارها وثائق تاريخية حضارية يجب أن نحسن استغلالها، لأن الدولة قد خسرت الأموال، ووظفت الرجال، واشتغلت لحفظ هذه الأدلة التاريخية».
وأضاف: «التعدي على الآثار تعدٍ على ثروات حكومية، وأموال وموروثات شعبية لأهل هذا البلد المبارك، وأقول لمن يعتدون على الآثار احذروا أن تقعوا في ذنب وأنتم لا تشعرون، خصوصًا أن الجهات الحكومية تعمل جاهدة لحفظ هذا التراث وتنقيته».
ونصح الشيخ المطلق من يعبثون ويتعدون على الآثار بالمساعدة في حفظ هذه الآثار، وقال: «أدعوكم إلى أن تتبصروا، وأن تتعقلوا، وتكونوا عونًا لإخوانكم في حفظ هذه المكارم والأدلة التي هي من مفاخر هذه البلاد، فكل بلاد تفخر بآثارها وتستغلها في العظة والعبرة، وقدم التاريخ، وحفظ سجلات الحضارة».
أعمال التخريب والتشويه دليل غياب الوعي
ويشير مستشار رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني المشرف على برنامج خادم الحرمين الشريفين للعناية بالتراث الحضاري الدكتور علي بن إبراهيم الغبان إلى أن غياب الوعي بأهمية المواقع الأثرية عند البعض أدى إلى تعرض العديد منها لأعمال التخريب والتشويه ممن لا يدركون أهميتها التاريخية والحضارية والاقتصادية ودورها في أثراء ثقافتنا، إضافة إلى ما تمثله هذه الآثار من عمق تاريخي لحضارات ورثت لنا العديد من العلوم والفنون التي تعد امتدادًا لما وصلنا إليه من رقي وتقدم ثقافي وحضاري في عصرنا الحالي.
ويضيف الغبان: أعمال التخريب والتشويه التي تتم ممارستها في المواقع الأثرية تتمثل في القيام بالحفر والتخريب للمواقع الأثرية بحثًا عن كنوز مزعومة أو قطع أثرية، إضافة إلى تشويه الرسوم الصخرية والكتابات الحجرية بطمسها أو الكتابة عليها بالدهان، أو نقل الأحجار من المواقع الأثرية واستخدامها في بناء مبانٍ حديثة، والتعدي على المواقع الأثرية والبناء بداخلها. مهيبًا بالمواطنين ضرورة لعب دور حيوي وفعّال في عملية المحافظة على الآثار في ظل انتشار المواقع الأثرية في جميع أنحاء المملكة.
تخريب مع سبق الإصرار
ويشير الدكتور سعيد السعيد أستاذ الآثار بجامعة الملك سعود إلى أن الكتابات والنقوش، والرسوم الصخرية القديمة المنتشرة على صخور الجبال في الكثير من المواقع الأثرية في بلادنا الغالية، تعتبر من المصادر الرئيسة التي استقى منها المؤرخون والباحثون كل ما دون ويُدون عن تاريخ الجزيرة العربية القديم وحضارتها، فهي التي يعتمد عليها بالدرجة الأولى، لأنها تمثل وجهة نظر صانع الحدث ذاته.
ويضيف د. السعيد قائلاً: تكتسب تلك الكتابات والنقوش والرسومات القديمة أهمية كبيرة، حيث إنها ثروة تاريخية مفيدة مهما كان موضوعها، فهي تسجل حياة أصحابها وطرق معيشة مجتمعهم، ونشاطهم الاقتصادي، كما أنها تعد المصدر الرئيس لتصوير عادات أصحابها وعقيدتهم، وأوضاعهم الاجتماعية والسياسية، وعلاقاتهم الخارجية بالأمم المجاورة لهم، فماذا يمكن القول عندما تمتد ظاهرة العبث وتشويه هذه الآثار، التي تعد من ملامح هويتنا الوطنية، بالكتابة عليها أو طمسها من قبل أيادٍ غير مسؤولة. إن الخطأ هنا يتعاظم لأنه يطول بعضًا من تاريخ البلاد ورموزها الثقافية الموروثة، الأمر الذي يستدعي منا وقفة حازمة لوضع حد لهذه الظاهرة، مع تكثيف حملات التوعية والإرشاد بصورة دورية متواصلة يشارك فيها الجميع للحفاظ على هذه الممتلكات الوطنية، وبذل جهود مستمرة في المجالين الوقائي والعلاجي، في استثارة الوعي العام لخطورة هذه الممارسات غير المسؤولة.
ويؤكد الدكتور سعيد السعيد أن ما يحدث من عبث وتشويه لهذه الممتلكات الثقافية يُعد تدميرًا وتخريبًا مع سبق الإصرار والترصد، وهو في حد ذاته ذروة الفساد، وقد نتج عن ذلك التشويه القضاء نهائيًا على بعض تلك الكتابات والرسومات بشكل يستحيل معالجته، لأنها نُفّذت على صخور رملية هشّة يصعب إزالة ما اعتلاها من تشويه، ما أفقدها الكثير من معانيها ودلالاتها.. لذا أقول للذين يقومون بكتابة عبارات الذكريات على بعض آثارنا: نعم الذكريات عزيزة لا مانع من كتابتها، لكن ليس على حساب التاريخ والآثار، فتلك العبارات جريمة بحق آثارنا؛ لأنها تطمس معالم تنتمي إلى البشرية جمعاء، فالتاريخ ليس ملكًا لأحد، وكل دارس يمكن أن يستفيد منه ومن آثاره المتبقية لنا، ويجب أن تبقى تلك الآثار التي وصلتنا عبر آلاف السنين مُصانة لتطلع عليها الأجيال القادمة، فالقادمون من بعدنا عندما يرون ما شوّهنا من تاريخ وآثار لن يرحمونا وسيصنفوننا بشتى التهم، فالمحافظة على هذه الآثار هي محافظة على سمعتنا عندما نصبح تاريخًا.
عقوبات جديدة بالسجن والغرامة
يشار إلى أن الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني وفي مجال اهتمامها برفع الوعي بالآثار أطلقت الهيئة حملة وطنية للتوعية بأهمية الآثار وبكونها مكسبًا للمواطن وملكًا لدولته وليست مستباحة، والعمل على تغيير الأنماط الفكرية التي تتعلق باستباحة الآثار أو سرقتها، والتأكيد على أن سرقتها أو طمسها والعبث بها يعد جريمة في حق وطنه وتاريخه، فهذه الآثار وطنية وأملاك للأمة وليست ملكًا فرديًا.
وقد أشار نظام الآثار والمتاحف والتراث العمراني الذي صدر بالمرسوم الملكي رقم: م-3 وتاريخ: 9-1-1436هـ أشار في مادته السادسة: إلى أنه: «يحظر التعدي على مواقع الآثار والتراث العمراني، أو تحويرها، أو إزالتها، أو إلحاق الضرر بها، أو تشويهها بالكتابة، أو الطلاء، أو النقش، أو إلصاق الإعلانات عليها، أو افتعال الحريق فيها، أو تغيير معالمها، أو طمسها.
وقد أكَّد المدير العام للإدارة القانونية في الهيئة العامة للسياحة والآثار الدكتور فيصل الفاضل، أن جميع الآثار الثابتة والمنقولة الموجودة في المملكة، أو في المناطق البحرية الخاضعة لسيادتها أو ولايتها القانونية، تُعد من الأملاك العامة للدولة، مشددًا على أن نظام الآثار والمتاحف والتراث العمراني الجديد يعاقب بالسجن لمدة لا تقل عن شهر، ولا تزيد على عام، وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف ريال، ولا تزيد على مائة ألف ريال، أو بإحدى هاتين العقوبتين، لكل من تعدى على أثر، أو موقع أثري، أو موقع تراث عمراني بإتلافه أو تحويره أو إزالته أو نبشه أو إلحاق الضرر به، أو تغيير معالمه أو طمسه أو قام بالمسح أو التنقيب عن الآثار من دون ترخيص.