فضل بن سعد البوعينين
أحدثت عملية باريس الإرهابية تغييراً جذرياً في تعاطي دول أوروبا مع ملف الإرهاب، وعمليات مكافحته، ورؤيتها تجاه منظمات الإرهاب المتغلغلة في دول الشرق الأوسط، وجعلتها أكثر وعيا بمخاطرها، وعملياتها المنظمة التي لا يمكن محاصرتها في نطاق محدود، أو توجيهها لتحقيق أهداف إستراتيجية دون التعرض لعملياتها المدمرة.
تراخت دول الغرب في مكافحة الإرهاب وتجفيف منابع تمويله، وتقاعسوا في نصرة الحق، والاستماع إلى صوت العقل المنادي بالقضاء على الإرهاب، وتمادوا في كيل التهم للدول الأكثر مكافحة له وفي مقدمتها السعودية. وبدلاً من التعاون معها في مكافحته، استغلت دول الغرب كل عملية تفجير تحدث على أراضيها، لإلصاق تهمة الإرهاب بالمملكة، متجاهلة جهودها المشهودة في مكافحته، وأنها الأكثر تضرراً منه.
أعلن الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، بعد أيام معدودات من الهجمات الإرهابية على باريس، «حالة الحرب»، وطالب بتغيير الدستور من أجل السماح لحكومته باتخاذ إجراءات استثنائية مشددة لمواجهة الإرهاب، ومنها توقيف الإرهابيين بمعزل عن القضاء، وإسقاط جنسية من تثبت إدانته من الفرنسيين، وتشديد الرقابة على التحويلات المالية.
ما طالب به الرئيس الفرنسي من إجراءات أمنية مشددة، وصلاحيات استثنائية لمواجهة الإرهاب، كانت محل انتقاد دائم من قبلهم حين تبنتها المملكة في حربها الطويلة ضد الإرهاب والإرهابيين.
كانت المملكة، وما زالت تناشد المجتمع الدولي الوقوف معها في مواجهة جماعات الإرهاب، التي استفادت بشكل كبير من تراخي الغرب في دعم وتبني برامج مكافحة تمويل الإرهاب.
بعد أن استشعرت دول الغرب خطر الإرهاب، وأدركت أهمية تجفيف منابع تمويله، أقرت المفوضية الأوروبية سياسات جديدة تسمح لها بتشديد الرقابة على الجوانب المالية، وتحويلات الأموال المصرفية وغير المصرفية، لضمان قطع التمويل عن جماعات الإرهاب من جهة، وكشف خيوط الجرائم الإرهابية من جهة أخرى.
تسببت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، في وقف خدمات بطاقات الائتمان مسبقة الدفع (VTM) الوليدة، في كثير من الدول. أثبتت التحقيقات الأمنية نجاح بعض الإرهابيين في استخدام تلك البطاقات بمعزل عن الرقابة، حيث وفرت لهم الغطاء اللازم للحركة والتمول المالي بعيدا عن أعين الجهات الأمنية.
تشديد الرقابة على البطاقات مسبقة الدفع، والعملات الإلكترونية المرتبطة بشبكات الإنترنت باتت من أدوات الاتحاد الأوروبي في حربه المالية على جماعات الإرهاب. وبرغم أهمية إجراءاته المحدثة، إلا أنها لا ترقى إلى مستوى القدرة على تجفيف منابع التمويل التي باتت أكثر تعقيداً واحترافية.
إجراءات الاتحاد الأوروبي الأخيرة خطوة في الطريق الصحيح، إلا أن التعامل معها باستقلالية يضعف من كفاءتها. تجفيف منابع تمويل الإرهاب في حاجة إلى جهود دولية شاملة، وتكامل أمني عالمي يضمن عدم السماح للتدفقات القذرة بالمرور من خلال شبكات التقاص المالي الدولية، أو النقل، أو التبادلات التجارية التي تستخدم كغطاء لغسل الأموال القذرة وتمويل الإرهاب، إضافة إلى أهمية مكافحة الأنشطة التجارية المحرمة، كتجارة المخدرات، التهريب، التحف، والرقيق الأبيض التي باتت من مصادر التمويل غير التقليدية.
قد تشكل التدفقات النقدية من خارج المنظومة المصرفية خرقاً للجدار الأمني العالمي، إلا أن المنظومة المصرفية العالمية لا تقل خطراً عنها، بسبب عمليات التحايل الاحترافية التي تقوم بها جماعات الإرهاب، أو التراخي الرقابي المتعمد من قبل بعض الجهات الأمنية الغربية التي تسمح بمرور الأموال القذرة لجماعات إرهاب شرق أوسطية لأسباب استخباراتية صرفة. انشغل الغرب لسنوات باستهداف المملكة، ومحاولة إلصاق تهمة الإرهاب بها، بدلاً من دعم حربها المصيرية ضد جماعاته المسلحة، وتقاعست القطاعات المالية الغربية في تنفيذ معايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب الموجهة ضد السعودية لأسباب إستراتيجية، وعندما انكوت بنيرانها سارعت لاستصدار قوانين وأنظمة استثنائية تسهم في حمايتها.
تجفيف منابع تمويل الإرهاب كفيل بالقضاء على جماعاته المنتشرة حول العالم، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا بالجهود الدولية المشتركة، بعيدا عن ازدواجية المعايير، والانتقائية الموجهة لخدمة الأهداف الغربية الإستراتيجية، بمعزل عن أمن واستقرار الدول العربية وفي مقدمتها دول الخليج.