عبدالله بن سعد العمري ">
يروقني كثيراً ندب الوطن خلال البعد عنه، أو مع الاشتياق إليه، أو خلال محاورة حنينه. شيء ما يذهل خاطري حالما تصفو سماء الدنيا، فأرى نجوما قد دنا منها ناظر أهلي قبل دنوِّي، وتصافح معها تراب وطني قبل اختلاجاتي. هنا من أمريكا قد لا يطفو فوق ماء عينيَّ إلا غشاوات جهلي أمام كفاح أبي، وإخلاص أمي. شيءٌ ما عظيم هنا، لكنه لا يتفوق على وقت معلمي في الصف الثالث المتوسط حينما وقف على برنامج قراءتي اليومي لتلك السنة، شيء عظيم هنا حقاً، لكنه لا يتفوق على أخي حينما أدخلني إلى نادي أبها الأدبي في الصف الأول الثانوي وأكد ثقتي بنفسي. كل أشيائي هنا في الواقع قد بنى أسسها رجال وطني، وهب إلى تركيبها بسطاء أهلي.
الوطن هو الشعور بحب زائف كلما أدرت ظهري له، وهو الشعور بتقوى الحب كلما أدرت ظهري لغيره. وكم كانت النفس تكذب صاحبها إذا ما أكبَّ بوجهه معرضا عن قبلة قومه، ومدبرا عن مصبغ تربته!
ورحم الله مصطفى صادق الرافعي حينما تنبه لهذا المعنى فقال:
ومن يظلم الأوطان أو ينس حقها
تجبهُ فنون الحادثات بأظلُمِ
ولا خير فيمن إن أحب دياره
أقام ليبكي فوق ربع مهدمِ
ويمضي الحكماء قدماً نحو الاعتزاز بقبلة الوطن، ليخرجوا أشد عبارات الأسى على من باعوا وطنهم بثمن بخس دراهم معدودات، فها هو السياسي العراقي أحمد الجلبي أحد أكبر المسؤولين عن غزو بلاده عام 2003 والمتوفى قبل يومين، يتحمل ما آل إليه العراق من شتات، ليواجه بنفسه حكم الإعدام في نظر خليل مطران الذي يقول متأسفاً على حال أمثاله:
بلادي لا يزال هواك مني
كما كان الهوى قبل الفطامِ
أقبل منك حيث رمى الأعادي
رغاما طاهرا دون الرغامِ
لحى الله المطامع حيث حلت
فتلك أشد آفات السلامِ
أما عن سر عن هذا الحب للوطن، فلا حدثٌ أوفى إجابةً من دمعة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- حينما خرج مكرهاً من مكة. ولا شعرٌ يكاد يكون أشفى من بيتين نقلهما أبو الفتح الأشبيهي عن شاعر قوله:
بلاد ألفناها على كل حالة
وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحَسَنْ
وتُستعذبُ الأرضُ التي لا هواء بها
ولا ماؤها عذب ولكنها وَطَنْ
إن الإحساس بهذه القيمة الرائعة لا يمكن أن يظل حبيس أقفاصنا الصدرية، فقد تمكنت اليوم قيمة الوطن من معطيات تكاتفنا، ودفعت إلى الشمس لفح تماسكنا، بل وتجاوزتها إلى أجيال مبادئنا وفهمنا.
أما وقد ارتاد قلمي اليوم قميص الشعر، فقد راودته أخرى إلى نزعه، لتلبسه تاج العفة في خمسة أبيات للصديق د. إبراهيم التركي، حيث يختتم فيقول:
وجهت لله، جل الله، تسبيحي
وأفصح الشوق عن سري وتلميحي
وأبحرت وسط عصف الريح مركبتي
ولم يضرها صدام البحر والريحِ
يا أجمل النور هل سامرت مغتربا
قد غاب عن لغة القيصوم والشيح
قولي متى يبلغ الربان شاطئه
فيحتويني بإيمائي وتصريحي
فقديسة أنت لكني ثرى وطن
إذا انتسبت فلا تنسي مفاتيحي
- الولايات المتحدة