سلطان المصادري
ثورات أربع قادت الإنسان إلى التطور الحضاري والتقدم المعرفي الذي نشهده اليوم. فمن الثورة الزراعية التي انتقل فيها الإنسان البسيط من صيد الحيوانات البرية والبحرية وجمع ثمار الأشجار إلى زراعة الأرض وحرثها وحصدها، ومنها بعد قرون طويلة إلى الثورة الصناعية التي بدل الإنسان فيها المهن اليدوية بالأتمتة الصناعية، ومنها إلى الثورة التكنولوجية التي شغلت فيها الكهرباء حجر الأساس، وصولاً إلى آخر ثورات البشر، الثورة الرقمية، وهي الثورة الإنسانية الرابعة (أو الثورة الصناعية الثالثة)، التي اعتمدت على الترانزستور والدوائر الإلكترونية المتكاملة، وأطلقت أعظم اختراعات العصر الحديث (الكمبيوتر والهاتف المحمول والإنترنت).
أطلقت الثورة الرقمية التي بدأت «تقريباً» في نهاية الستينيات الميلادية من القرن العشرين أيضاً ما يعرف بعصر المعلومات بسبب انتشار وتبادل المعلومات عبر الوسائط الرقمية المتعددة.
عصر المعلومات أدى بدوره إلى ظهور مجتمع المعرفة بفعل الدور الذي لعبه ما يعرف بالاقتصاد القائم على المعرفة، الذي حول المعرفة إلى سلعة تجارية تباع وتشترى، وتقدر قيمتها بالمليارات.
كيف يمكن أن نحول الاقتصاد السعودي إلى اقتصاد معرفي؟ وكيف يمكن أن نحول المجتمع السعودي بالمحصلة إلى مجتمع معرفي؟ ما سر زيارة الملك سلمان التاريخية إلى أمريكا مؤخراً؟ ولماذا تعتبر هذه الزيارة نقطة التحول الحقيقية إلى مجتمع المعرفة؟ لماذا تريد السعودية تبني التجربة الكورية للتحول إلى مجتمع المعرفة؟ ما أشهر التجارب العالمية في الانتقال إلى مجتمع المعرفة؟
في السابق كانت الاقتصادات القوية تعتمد على الأراضي الخصبة والعمالة الماهرة في زراعتها وحصدها وبيع محاصيلها، فيما يعرف بالاقتصاد الزراعي. بدأت الثورة الصناعية، ودخل عامل رأس المال كعنصر مهم في تأسيس اقتصادات قوية، وبدأ عصر الاقتصاد الصناعي الذي يعتمد على تصنيع وبيع المنتجات الصناعية. لكن في الاقتصاد المعرفي كل ما تحتاج إليه هو فكرة معرفية مبتكرة، وعقل بشري معرفي متطور، أو ما يعرف برأس المال البشري. المعرفة تكمن في أن يكون المجتمع معشراً معرفياً، يتبادل المعرفة، وينشرها، ويؤطرها، وينتجها، ويعيد بيعها. أي أن تحول الفكرة المبتكرة إلى منتج لتبيعها إلى العالم بدلاً من بيع القمح والبترول. يلعب رأس المال البشري عنصراً حقيقياً في هذه المعادلة؛ فهو من يخلق الفكرة ويصنعها ويسوقها؛ لذلك يمكن لأي دولة لا تملك محاصيل زراعية كالقمح أو القطن، ولا موارد طبيعية كالنفط والغاز، أن تجسد الأفكار الابتكارية وتبيعها كما تفعل جمهورية كوريا الجنوبية بالطبع؛ لذلك أضحى عاملا المعرفة والإنسان المعرفي أهم عوامل الإنتاج الوطنية وأعمدة الاقتصاد الحقيقية في الدول الكبرى. تحولت الدول الناشئة إلى دول متقدمة، ومن ثم إلى قوى عظمى، بفضل مجتمعاتها المتحضرة، وبفضل نواة التطور في كل شيء: الإنسان وعقله المعرفي.
كيف يمكن تطبيق هذا التحوُّل
المعرفي في السعودية؟
للتحول إلى مجتمع المعرفة يلزم التحول أولاً إلى اقتصاد معرفي. لفهم ماهية اقتصاد المعرفة وابنه النجيب «الاقتصاد القائم على المعرفة»، وبدون الدخول في تفاصيل معقدة يمكن أن تزيد حجم هذه المقالة، يمكن أن نطرح هذا المثال البسيط في دراسة صادرات ثلاث دول (السودان وتركيا وأمريكا). السودان هو بلد زراعي، ويعتبر سلة العالم الغذائية، ويصدر العديد من المحاصيل الزراعية؛ ولذلك يعتبر اقتصاده «اقتصاداً زراعياً» بحتاً. يصدر السودان القطن بوصفه أحد أهم المحاصيل الزراعية. تقوم تركيا باستخدام القطن في تصنيع المنسوجات والملابس وتصديرها؛ ولذلك يعتبر اقتصادها «اقتصاداً معرفياً». أمريكا على النقيض من البلدين؛ تستخدم القطن على سبيل المثال في تصنيع النسيج الذكي الذي يُستخدم في قياسات حيوية، مثل نبض القلب ودرجة الحرارة ومتابعة حركة الجسم؛ ولذلك اقتصادها يعتبر «اقتصاداً قائماً على المعرفة». عند حساب العوائد المالية نجد أن السودان تربح 500 دولار عند تصدير بالة من القطن تزن 200 كيلوغرام، وتربح تركيا 4000 دولار عند تحويل تلك الحزمة إلى 200 بنطلون جينز، بينما يمكن أن تستخدم شركة أمريكية تلك الحزمة في تصنيع 1200 شورت ذكي، وتبيع كل واحد منها بـ 500 دولار، وجني عوائد تزيد على نصف مليون دولار. عند مقارنة المداخيل المالية يتضح لك مَنْ الصغير الضعيف، ومَنْ اليافع المتطور، ومَنْ الكبير القوي، وتظهر لك أهمية الاقتصاد القائم على المعرفة.
لذلك يعتبر رأس المال البشري هو المكون الحقيقي لكل اقتصادات القوى العظمى، بينما تطأطئ شعوب الدول النامية رؤوسها لحرث الأرض أو نقبها؛ لتعيش عليها، وتقتات من خيراتها الزراعية والطبيعية. بينما موارد القوى العظمى تتمحور في عقول شعوبها الذكية التي تملك مخزوناً معرفياً وسمات إبداعية وسجايا ابتكارية ومواصفات شخصية واجتماعية وحضارية متقدمة؛ لذلك تستطيع شركة أمريكية واحدة، تدعى آبل، أن تدر منتجاتها في عام 2015 عوائد تتجاوز 700 مليار ريال، وهو ما يعادل إيرادات السعودية للعام الحالي، بينما عائدات سامسونج لعام 2015 تقارب ضعفي إيرادات السعودية.
السؤال البسيط: ماذا لو امتلكت السعودية شركة تعادل ميزانيتها ميزانية دول مثل شركة آبل؟ أو شركة تتحكم في أسواق إلكترونية وإنشائية وتعميرية مثل سامسونج؟ أو شركة تبيع 10 ملايين سيارة سنوياً مثل تويوتا؟ أو شركة تتحكم في الإنترنت مثل قوقل؟
حاولت السعودية الإجابة عن هذه الأسئلة عبر سلسلة دراسات، بدأتها الحكومة في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله -، وعبر استراتيجيات استهلتها بعهد الملك عبدالله بن العزيز - رحمه الله -، وتحاول الآن في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - تطبيق سياسات وتشريعات اقتصادية، ستطلق شارة بداية تحول السعودية إلى اقتصاد معرفي، وإلى مجتمع معرفي؛ إذ قام الملك سلمان بن عبد العزيز بزيارة الولايات المتحدة الأمريكية في سبتمبر الماضي في أول زيارة له خارج البلاد، وكان برفقته ولي ولي العهد السعودي ورئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية الأمير محمد بن سلمان، في زيارة وُصفت بالأهم منذ أول قمة سعودية - أمريكية قبل 70 سنة. أعلن الملك سلمان خلالها سلسلة قرارات، أهمها إعلان فتح نشاط تجارة التجزئة والجملة بملكية 100 % للشركات الأجنبية بالسعودية، ودراسة الإجراءات النظامية كافة للشركات لمن يرغب بالاستثمار في المملكة. كسر الملك سلمان البرتوكول الملكي بحضوره شخصياً حفل عشاء منتدى الاستثمار الذي أقامه مجلس الأعمال السعودي - الأمريكي في واشنطن حيث التقى العديد من رؤساء الشركات الأمريكية، وقدم لهم دعوة شخصية للعمل بالمملكة في كلمة ألقاها أمامهم. أيضاً طلب الأمير محمد بن سلمان (بصفته رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية) في لقائه مع رؤساء الشركات الأمريكية تقديم خطط استثمار وتصنيع ونقل للتقنية والتدريب والتوظيف للمواطنين السعوديين، إضافة إلى مجموعة من الضوابط والقرارات التي وجَّه الأمير محمد بن سلمان بتنفيذها، والتي تتعلق بتقليص فترة استخراج التراخيص للشركات الأجنبية، وأطال مدة الترخيص إلى 15 سنة قابلة للتجديد. ويتوقع أن تكون أولى الشركات المستغلة لهذه القرارات التاريخية شركة آبل بافتتاحها متجراً لبيع منتجاتها في السوق السعودي، الذي سيكون الثالث لها بالشرق الأوسط بعد افتتاح مقرين لها في دبي وأبو ظبي في 29 أكتوبر المنصرم، بعد استثناء حصلت عليه من الحكومة الإماراتية، يسمح لها بتملك الفرع الإماراتي بنسبة 100 % بسبب القوانين الإماراتية التي تشترط ملكية المواطن الإماراتي نسبة لا تقل عن 51 % بالشركة الأجنبية. إذا كانت شركة آبل تكبدت عناء التفاوض مع الحكومة الإماراتية للحصول على هذا الاستثناء فما الذي يمنعها الآن وغيرها من الشركات العالمية من افتتاحفروع لها بالسوق السعودي الأكبر من حيث القوة الشرائية وعدد السكان؟ لا شيء.
بدأت خطوات السعودية بالتحول إلى مجتمع معرفي، يتمتع باقتصاد قائم على المعرفة فعلياً في عام 2009، عندما أطلقت خطة «معرفة 1»، التي تزامنت مع خطة التنمية الخمسية التاسعة 2010 - 2014. خطة «معرفة 2» أو الهدف الثالث في خطة التنمية الخمسية العاشرة 2015 - 2019 التي أُفصح عنها في نهاية العام 2014 واكب إعلانها الإفصاح أيضاً عن الاستراتيجية الوطنية للتحول إلى مجتمع المعرفة والاقتصاد القائم على المعرفة بحلول العام 2030، التي تتماشى مع الاستراتيجية بعيدة المدى للاقتصاد السعودي 2004 - 2024، وتعتمد على عدد من الخطط والاستراتيجيات المعدة مسبقاً، مثل السياسة الوطنية للعلوم والتقنية والخطة الوطنية للاتصالات وتقنية المعلومات والاستراتيجية الوطنية للصناعات والخطة المستقبلية للتعليم الجامعي والاستراتيجية الوطنية للنقل واستراتيجية الموهبة والإبداع ودعم الابتكار. الاستراتيجية الوطنية للتحول إلى مجتمع المعرفة والاقتصاد القائم على المعرفة تم إعدادها بالتعاون مع المعهد الكوري للتنمية، وعبر لجنة مكونة من 166 خبيراً سعودياً من وزارة الاقتصاد والتخطيط ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية وعدد من الجامعات السعودية ووزارة التعليم والتعليم العالي «سابقاً» وزارة التجارة والصناعة وعدد من الجهات الحكومية ذات العلاقة، إضافة إلى مجموعة الأغر، وهي حاوية فكرية خاصة وغير ربحية، كان لها دور فعال في طرح فكرة التحول المعرفي. الاستراتيجية الوطنية للتحول إلى مجتمع المعرفة والاقتصاد القائم على المعرفة تهدف إلى تحقيق هذه الرؤية الحلم «بحلول العام 2030، تصبح المملكة مجتمعاً معرفياً في ظل اقتصاد قائم على المعرفة مزدهر متنوع المصادر والإمكانات، تقوده القدرات البشرية المنتجة والقطاع الخاص، ويوفر مستوى معيشياً مرتفعاً، ونوعية حياة كريمة، وتتبوأ مكانة مرموقة، بوصفها دولة رائدة إقليمياً ودولياً».
ما هي سمات المجتمع المعرفي؟
المجتمع المعرفي يجب أن يحصل أفراده على مستوى تعليمي أعلى بكثير من غيره من المجتمعات العالمية، وأن يتم توظيف نسبة عالية من أبنائه في مجالات المعرفة. هذا يعني أن يستمر التحصيل العلمي للأفراد في مجالات علمية وهندسية وطبية، وأي مجالات معرفية أخرى يمكن أن تخدم المجتمع وتنمى فيه المعرفة والابتكار والإبداع. التحصيل العلمي العالي يجر إلى مخرجات وطنية قادرة على ترجمة الأفكار وتصنيعها وتسويقها وبيعها للعالم. إحدى أبرز السمات للمجتمعات المعرفية تتمثل في تصنيع وتصدير منتجات تكنولوجية مبتكرة فريدة، لا تشبه غيرها من المنتجات. ويظهر تفوق المجتمعات معرفياً في قوة منتجاتها التكنولوجية السلمية وغير السلمية. أقوى المجتمعات المعرفية على وجه الأرض هو الولايات المتحدة الأمريكية، ويظهر ذلك في منتجاتها التكنولوجية عبر التاريخ من اختراع الكهرباء إلى التليفون الثابت والمحمول إلى القنبلة الذرية، وصولاً إلى الكمبيوتر والإنترنت، مروراً بحاملات الطائرات، وانتهاءً بالمنتج الذي غيّر حياة البشر في السنوات العشر الأخيرة «آبل آي فون». المجتمعات المعرفية تملك أيضاً حاويات فكرية Think Tanks، أو يما يعرف ببيوت الخبرة، وهي منظمات قومية غير ربحية، تهتم بالبحث والتطوير، وتساعد في وضع استراتيجيات الحرب والسلم، وفي وضع خطط التطور المعرفي والعلمي، وحتى دراسة الظواهر المجتمعية العارضة منها والمزمنة. المجتمعات المعرفية يتسم أفرادها أيضاً بثقافة معرفية عريقة مكتسبة من توارث إنتاج المعرفة واستخدامها. فمن يملك الثقافة المعرفية الكافية لا يمكن أن يتجاوز إشارة حمراء، أو يركن سيارته عرضياً في موقف طولي. اكتساب المعرفة يبدأ من صغائر الأمور حتى يصل لعظائمها. فمن احترام الأفكار البسيطة من قوانين المرور إلى الأدب في الحوار واحترام الرأي الآخر، وصولاً إلى الإخلاص والجدية في العمل، وانتهاء بابتكار الأفكار الإبداعية.. فلن تجد فرداً نجح عقله في إخراج فكرة جديدة يقبل إدخال واحترام وتطبيق قانون أو تشريع إنساني يعتمد على فكرة قديمة. لكن كيف يمكن قياس درجة تحول المجتمعات إلى مجتمعات معرفية؟ ما هي المؤشرات التي تدل على ذلك؟
المقاييس تختلف من مجتمع إلى آخر، ومن تجربة إلى أخرى. لكن بشكل عام يمكن قياس مدى نجاح تحول المجتمعات الإنسانية إلى مجتمعات معرفية من خلال عوامل عدة: أولاً: انتشار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في المجتمع من خلال استخدام الحاسبات الشخصية في المؤسسات التعليمية والمنظمات الحكومية والخاصة وعلى المستوى الشعبي من جانب الأفراد. أيضاً انتشار استخدام الأفراد الهواتف المحمولة، خاصة الذكية منها، وأخيراً تزود تلك المنصات الحاسوبية والهاتفية بالإنترنت، أي ارتباطها بالعالم من عدمه. يوجد تفوق واضح عند السعودية فيما يخص انتشار الحاسبات الشخصية والهواتف الذكية وانتشار الإنترنت حتى في كثير من المناطق النائية، لكن السعودية تعاني نقصاً في العوامل الأخرى الآتية: عدد العلماء والمهندسين المنشغلين بالبحث العلمي والتطوير ضعيف جداً؛ فالسعودية لا تملك عدداً كافياً ابتداءً من هذه الفئة المجتمعية، فكيف لها أن تخصص جزءًا منهم في البحث العلمي والتطوير؟ بالطبع انتشار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتركيز على مجالات البحث العلمي والتطوير يؤديان إلى زيادة براءات الاختراع، وهو العامل الأهم في قياس مدى تحول المجتمعات إلى مجتمعات معرفية. ولا غرابة عندما نعرف أن أمريكا واليابان تتصدران دول العالم في عدد براءات الاختراع الممنوحة سنوياً.
كيف تتحول السعودية فعلياً إلى مجتمع المعرفة واقتصاد المعرفة؟
بالطبع لا يمكن أن نجيب عن هذا السؤال في بضعة أسطر. لكن هناك خطوات حقيقية يجب القيام بها قبل التفكير - مجرد التفكير - في ذلك التحول المنشود. أولاها بالطبع إحداث ثورة معرفية في المجال التعليمي. قديماً قام المزارع المخضرم بنقل معرفته البسيطة إلى ابنه اليافع عبر تلقينه التقنيات والمهارات الزراعية التي يمتلكها، والتي مكّنت الابن من استلام المزرعة بعد رحيل والداه. ظلت المعارف محدودة ببضع تقنيات وأساليب، واستمرت البشرية تحبو معرفياً ونهضوياً حتى جاءت الثورة الصناعية التي غيّرت من حياة البشر. لا يمكن أن يعتمد التعليم عندنا أسلوب التلقين والارتكاز على الحشو والتعبئة عبر عدد خيالي من المواد والساعات الدراسية رغبة في التوصل إلى التلميذ المعجزة لنُفاجَأ بوصول طالب بليد سهل الانقياد، لا يمتلك فكرة أصيلة. يجب ترسيخ روح الابتكار في عقل الطالب، وتجذير المهارات الإبداعية في المناهج التعليمية، وتأصيل فكرة الاختراع في وجدان الطالب، وتبيان أهميتها في تقدم وتطور الأمم، وأخيراً ترسيخ وترسية الاستخدام المتقدم لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في البيئة التعليمية. لتطبيق ذلك كله نحتاج إلى منشآت وبنى تحتية متطورة، توفر بيئة تعليمية متقدمة، وتسهل استخدام وتبادل المعارف بين أبناء المجتمع. أخيراً، لا يجب أن ينحصر التقدم العلمي والمعرفي على فئة مجتمعية معينة (كالرجال مثلاً)، أو أن يسمح فقط بإكمال الدراسة لفئة الشباب فقط دون إتاحة الفرصة للكبار بالسن (فوق الثلاثين)، أو أن تنفرد منطقة معينة بتلك النهضة العلمية. يجب أن يقود تلك الثورة المعرفية الجامعات والحاويات الفكرية ومراكز الأبحاث؛ فالحكومات والوزارات لا يمكن أن تحدث شرارة التغيير بدون تحرك تلك المؤسسات الفكرية والإبداعية القادرة على إشعال نار التحول المعرفي في البلد.
ما هي مراحل التحول إلى المجتمع المعرفي؟ أين تقف السعودية اليوم؟
ويمكن أن نختصر مراحل التحول المعرفي إلى خمس مراحل: توليد المعرفة، نقل المعرفة، إدارة المعرفة، نشر المعرفة وأخيراً استثمار المعرفة. توليد المعرفة يكون في التوسع في مجالات البحث والتطوير العلمي في الجامعات والحاويات الفكرية والمؤسسات البحثية وتنمية روح الابتكار في أفراد المجتمع أيما كان عملهم أو دراستهم. تدعم هذه المرحلة الاستراتيجيات التي وضعتها السعودية في كيفية التحول إلى المجتمع المعرفي والتغييرات التي أجرتها بعض الجامعات والمراكز البحثية في التحول المعرفي. ثاني مرحلة تتمحور حول نشاطات نقل المعرفة، وهي المرحلة التي دشنها الملك سلمان في زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. نقل المعرفة يتمثل باستقدام الخبرات الأجنبية لأغراض تدريبية، وشراء التقنيات وبراءات الاختراع التي تسمح بالتوسع الصناعي، وتشجيع الشركات التكنولوجية العالمية عبر منحها تسهيلات ضخمة لحثها على افتتاح فروع لها بالسعودية، ابتداء من متاجر بيع مباشرة مروراً بإنشاء مراكز بحثية، وانتهاء بمصانع وخطوط إنتاج جزئية أو كاملة. جلب الشركات الأجنبية العالمية وتوطين التقنيات المتقدمة يمكن أن يكونا أيضاً عبر الاستحواذ الكامل أو الجزئي على تلك الشركات. المرحلة الثالثة تتمحور حول كيفية إدارة هذه المعارف المتراكمة التي خلفتها المرحلتان الأولى والثانية؛ إذ يؤثر عملية إدارة هذه الثورة المعرفية على الوصول بنجاح إلى المرحلة التالية. الهدف هنا يتجلى بأهمية إكمال التوسع في نشاطات توليد ونقل المعرفة مع مراعاة الاهتمام بـ والحفاظ على المعارف المكتسبة سابقاً، خاصة المعارف الابتكارية والخلاقة منها. المرحلة الرابعة تهتم بنشر المعرفة في المجتمع عبر أذرعته التعليمية والتدريبية لخلق جيل جديد قادر على ابتكار المعرفة وتوليدها. في المرحلة الأخيرة يأتي وقت الحصاد عندما يتم استثمار المعارف في مختلف قطاعات الدولة عبر نشاطات البحث والتطوير العلمي والابتكار. هنا نتحدث ببساطة عن استثمار المخرجات الابتكارية والإبداعية وإعادة ضخها في شرايين الاقتصاد الوطني لدعمه. تندمج بعدها جميع المراحل في عملية تراكمية تكاملية لتحقيق الهدف الأسمى في تأصيل المعرفة وضمان استدامتها بالمجتمع. فالمجتمع سيستمر في توليد ونقل المعارف، وبالوقت نفسه سيكون قادراً على إدارتها ونشرها واستثمارها.
التجربة الفنلندية
فنلندا هي أحد البلدان الشمالية في المنطقة الفينوسكاندية في شمال القارة الأوروبية العريقة. مرت فنلندا عبر تاريخها القصير بكثير من التحولات الجيوسياسية، وعاشت الكثير من الحروب والنزاعات الدولية. كانت فنلندا جزءاً تاريخياً من الإمبراطورية السويدية، ثم انفصلت لفترة قصيرة؛ لتنضوي تحت جناح الإمبراطورية الروسية، ثم خاضت حرباً أهلية طاحنة بعد استقلالها، وحروباً أخرى ضد الاتحاد السوفييتي وألمانيا النازية؛ لتنضم إلى الأمم المتحدة في عام 1955. عاشت فنلندا تجربة مثيرة للتحول إلى مجتمع المعرفة في فترة قصيرة جداً، وتحتل اليوم المراتب العليا في قوائم الأفضلية في جميع المجالات. فمن احتلالها المرتبة الأولى في قائمة أفضل بلد في العالم من حيث التعليم والاقتصاد والصحة والبيئة السياسية ونوعية الحياة العامة إلى اعتبارها أكثر البلدان استقراراً في العالم. فنلندا أيضاً تعد البلد الثالث عالمياً من حيث نسبة الخريجين الجامعيين مقارنة مع عدد السكان في سن التخرج العادي. وتتصدر فنلندا باستمرار القوائم الدولية في الأداء الوطني. اقتصاد فنلندا في الستينيات الميلادية من القرن الماضي كان اقتصاداً زراعياً بحتاً، يعتمد على استيراد جميع منتجاته الاستهلاكية من الخارج، إلا أن فنلندا تعتبر اليوم في مصاف الدول من ناحية الصرف على البحث والتطوير العلمي بالمقارنة مع الناتج المحلي الإجمالي في نسبة تتجاوز 3.5 %.
التجربة الفنلندية مثيرة لثلاثة أسباب: أولاً: التحول إلى مجتمع المعرفة استغرق وقتاً قصيراً جداً. ثانياً: التحول المعرفي حدث بالتزامن مع أزمة اقتصادية عصفت بالبلاد في منتصف التسعينيات الميلادية، لكن البلد تمكن من التعافي من الركود الاقتصادي والعبور إلى المجتمع المعرفي. وأخيراً: التجربة الفنلندية بالتحول إلى المجتمع المعرفي اعتمدت على تغيير كبير في المجال التعليمي، وبالتحديد المدرسي، وبواسطة تكاليف مالية أقل بكثير من السابق. كل ذلك يعني أن فنلندا تمكنت من التحول المعرفي في وقت قصير، وعبر إصلاح تعليمي بميزانية زهيدة، وأنجزت هذا كله وسط أزمة اقتصادية عصفت بالبلاد.
وأدركت فنلندا أهمية إصلاح التعليم لتأثيره على صناعة رأس المال البشري المهم في توليد التكنولوجيات الجديدة، وخلق حلول ابتكارية غير مسبوقة. استوعبت فنلندا أهمية المساواة في الفرص التعليمية بين الجنسين، وعدم إهمال أي منطقة بناء على اعتبارات مناطقية أو اقتصادية أو اجتماعية، ورفعت شعار التعليم المجاني للجميع وصولاً إلى التعليم الجامعي. طورت فنلندا فلسفة تعليمية خاصة بها، قد لا تنجح في غيرها من الدول لحسابات جغرافية ودينية، لكن التجربة الفنلندية في الإصلاح التعليمي والتحول المعرفي جديرة بالدراسة.
التعليم في فنلندا إجباري حتى الصف التاسع، ومجاني حتى مرحلة الدراسات العليا. يبدأ الطالب الفنلندي الدراسة في سن السابعة بدون أي تعليم تمهيدي أو مسبق في مدارس لا يعمل بها إلا معلمون من حملة الماجستير فما فوق. بالرغم من أن شرط الحصول على وظيفة معلم في المدارس الفنلندية هو الحصول على مؤهل البكالوريوس إلا أن شرط الترسيم الوظيفي يتطلب الحصول على درجة الماجستير. ينخرط الطالب الفنلندي بداية من الصف السادس في صفوف أسبوعية استشارية لاختيار التخصص الذي يرغب في إكماله بالمستقبل. وبعد الانتهاء من الصف التاسع ينتقل إلى المدرسة الثانوية التي تدوم ثلاث سنوات. التعليم في فنلندا يعتمد على مبدأ الدراسة من أجل الفهم، وليس الدراسة من أجل اجتياز الاختبار. ويعد حصر الدرجات من آخر اهتمامات المعلم، وقبله الطالب.
أحد الدروس التي يمكن تعلمها من التجربة الفنلندية هو إمكانية عمل إصلاح اقتصادي كبير وتعليمي عريض وسط ركود اقتصادي ضخم، وأن الأزمات السياسية والاقتصادية يمكن «بالعزم الذي لا يضعف» أن تثمر ازدهاراً ورفاهية اقتصادية واجتماعية. الدرس الآخر: انعدام وجود البنى التحتية التكنولوجية أو الأرضية الابتكارية ليس السبب الوحيد في ضعف النمو الاقتصادي بل العلة تكمن في انعدام وجود اليد العاملة عالية التدريب والواسعة الابتكار. والدرس الأخير والأكثر أهمية: ليس المال وحده قادراً على إحداث التغير المعرفي، بل هو الفكر، وأن زيادة الصرف والبذخ المالي على مشروع ما لا تعني بالضرورة الحصول على مخرجات أفضل.
التجربة الكورية
قصة نجاح كوريا الجنوبية الاقتصادي، ونجاح مشروع تحولها إلى المجتمع المعرفي (ما زال مستمراً). قصة لم يُحكَ مثلها من قبل. مشروع الدولة الكورية الجنوبية الحديثة خرج من رحم الاحتلال الياباني، وفرن الحرب العالمية الثانية، وتنور الحرب الأهلية مع جارتها الشمالية وشقيقتها المعتوهة كوريا الشمالية. عاشت كوريا الجنوبية السبعين سنة الماضية بجوار جار فاشي مجنون، جعلها بشبه حالة حرب دائمة، وخوف مستمر من خطر الإزالة من تاريخ وجغرافيا الأرض بسبب حرب إبادة نووية، تشنها أختها الشمالية. بالرغم من ذلك كله، وبالرغم من وقوع كوريا الجنوبية بين مطرقة التفوق التقني الياباني الشرقية وسندان الأسعار الصينية الرخيصة الغربية والفك الشمالي لجارتها المجنونة كوريا الشمالية، إلا أنها تمكنت من إحداث ثورة اقتصادية، ولمرتين: الأولى في منتصف السبعينيات الميلادية من القرن المنصرم، انتهت بها إلى مصاف دول العالم المتطور. والثانية في منتصف التسعينيات الميلادية، وما زالت تقودها إلى مجتمعات المعرفة.
في الستينيات الميلادية كانت كوريا الجنوبية تعاني فقراً مدقعاً، وكان غالبية شعبها يعيش تحت خط الفقر، وتنحصر صادراتها المحلية إلى العالم بـ»البواريك»، أو ما يعرف بالشعر المستعار. بحلول الألفية الجديدة تحولت 90 % من الصادرات الكورية إلى المنتجات التكنولوجية كدلالة على تحول اقتصادي رهيب خلال فترة قصيرة.
مرت كوريا الجنوبية في تاريخها الحديث بكثير من الاضطرابات السياسية والأحكام العرفية وحكم ديكتاتوري أخَّر كثيراً من نهضتها الاقتصادية، حتى أنها لم تنضم إلى منظمة الأمم المتحدة إلا في عام 1991. وضعت الحكومة الكورية أول خطة تنموية إصلاحية في الستينيات الميلادية بالتعاون مع الحكومة الأمريكية، ثم تبنت الحكومة الكورية خطة جديدة تم تصميمها بواسطة عقول كورية في منتصف السبعينيات بعد تأسيس المعهد الكوري للتنمية. لكن تلك الإصلاحات لم تُؤتِ أكلها بشكل كامل بسبب الاضطرابات السياسية التي تجري بالبلد حتى تأسست ما يعرف بالجمهورية الكورية السادسة في 1987، التي كانت بداية العهد الديمقراطي في كوريا الجنوبية وتاريخ استهلال النمو الاقتصادي الكوري الحديث.
وبدأت شرارة تحول كوريا الجنوبية إلى مجتمع المعرفة في عام 1995 بعد اشتعال الأزمة الاقتصادية في المكسيك. بدأت الصحف بطرح التكهنات باحتمال إصابة البلد بأزمة اقتصادية تشل أركانه، وتوقف موجة النمو الجيد الذي يمر به الاقتصاد الكوري. لم تكن تلك التكهنات إلا مجرد نبوءة؛ إذ نشب ركود اقتصادي على مستوى القارة، أوقف عجلة النمو بالبلد، وقذفه إلى حافة الإفلاس. قام أغلبية الشعب الكوري بالتبرع بمخزونه الشخصي من الذهب إلى البنوك المحلية للمساعدة على زيادة الاحتياطات من النقد الأجنبي. أعلنت الحكومة الكورية تنفيذ إصلاحات اقتصادية، تقوم على فكرة تحويل الاقتصاد الكوري إلى اقتصاد معرفي، وتم تنفيذ خطة قاسية وصارمة لإعادة هيكلة القطاع المالي والعام وقطاع الشركات، مع هيكلة شاملة لسوق العمل الكوري. بالرغم من وجود شركات تكنولوجية متفوقة، مثل سامسونج وإل جي وهيونداي، إلا أن الحكومة الكورية قامت بغربلة شاملة لمناهجها المدرسية والجامعية لتنمية روح الابتكار والإبداع، ووضعت قوانين وتشريعات لدعم المنشآت الصغيرة، وقامت بتشجيع الخريجين الجدد للعمل بها رغبة منهم بخلق سامسونج جديدة وإل جي أخرى وهيونداي ثانية.
وحملت الخطة الكورية الطموحة شعار «المعرفة من أجل العمل - تحويل كوريا إلى الاقتصاد القائم على المعرفة»، وبدأ العمل عليها بعام 1998. أنشأت الحكومة فريق عمل مكوناً من عشر حاويات فكرية «بيوت الخبرة» برئاسة المعهد الكوري للتنمية. طلبت الحكومة الكورية المشورة من البنك الدولي ومن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية «OECD» التي انضمت لها كوريا بعام 1996، واشتركت الأطراف الثلاثة (الحاويات الفكرية بقيادة المعهد الكوري للتنمية - البنك الدولي - منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية) في وضع استراتيجية التحول إلى المجتمع المعرفي، الذي كان في ذلك الوقت مجرد توجه تنموي تبنته بعض الدول، ولم يثبت بعد فاعليته الحقيقية. بدأ التطبيق الفعلي لاستراتيجية التحول المعرفي في بداية العام 2000، التي كانت مكونة من 83 خطة عمل في خمس مناطق حيوية، تمثلت في قطاع المعلومات، الموارد البشرية، الصناعات القائمة على المعرفة، العلوم والتكنولوجيا وأخيراً مسعى القضاء على الفجوة الرقمية. الاستراتيجية كانت بإدارة خمس فرق عمل، تشتمل على 19 وزارة حكومية و17 مركز أبحاث.
أحد أهم الدروس المستخرجة من التجربة الكورية في التحول إلى مجتمع المعرفة هو أهمية الدور الإعلامي في التفاعل مع هذه القضية، بداية من تسليط الضوء على أهمية التحول المعرفي وحث الحكومة الكورية على تبني المشروع، وانتهاء بإقامة الندوات الشهرية والمؤتمرات السنوية لمتابعة التحول المعرفي وتعريف الناس به. أيضاً التعاون مع البنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية كان له دور كبير في تبادل الخبرات وتعديل خطط العمل، خاصة أن دول منظمة OECD قد سبق لها خوض معركة التحول المعرفي (هنا أقدم اقتراحاً للحكومة السعودية بتقديم طلب انضمام إلى منظمة OECD). أخيراً التجربة الكورية لم تكن قابلة للنجاح من دون مساعدة القطاع الخاص؛ فالشركات الكورية كانت محرك التحول المعرفي. ولا غرابة عند معرفة أن شركة واحدة مثل سامسونج تساهم بما يقارب 20 % من إجمالي الناتج المحلي الكوري.
والمثير بالتجربة الكورية أن فكرة التحول إلى مجتمع المعرفة والاقتصاد القائم على المعرفة لم تعد فكرة جديدة أو متداولة بكثرة مؤخراً في المجتمع والإعلام الكوري لتحولها إلى سياسات وتشريعات رئيسية، تم دمجها بالمشاريع التنموية والاقتصادية بالبلد؛ فكوريا الجنوبية هي أول بلد بالعالم يُنشئ وزارة للاقتصاد القائم على المعرفة. وبالرغم من أن خطة التحول المعرفي الكوري كانت تنتهي بعام 2030 إلا أن تاريخ العمل بها تم تمديده حتى 2040، وتفكر الحكومة هناك بتبني تاريخ جديد بالمستقبل. فالتحول المعرفي الكوري لم يعد خطة عمل، بل سياسة واستراتيجية كورية لا تنتهي.
التجربة الكورية المعرفية مثيرة للغاية، لكن العقيدة الكورية التي تمزج بين حب الوطن والولاء الكامل له وحب العمل والمثابرة فيه، وتحرم حتى فكرة إضراب العمل في النقابات العمالية لعدم الإضرار بالبلد ومصالحه، هي ما يستحق الاحترام أكثر.
التجربة الماليزية
«في وقت مضى كانت الأرض هي أساس الازدهار والغنى. وعندما جاءت الموجة الثانية (العصر الصناعي) ارتفعت المداخن فوق الحقول الزراعية. اليوم، المعرفة لن تكون هي أساس القوة فقط، بل أساس الازدهار والرخاء.» بتلك الكلمات أطلق مهاتير محمد صانع النهضة الماليزية الحديثة خطابه الشهير في عام 1991 بعنوان «ماليزيا: الطريق إلى الأمام». مهاتير حوّل ماليزيا من بلد فقير في نهاية الستينيات الميلادية، يعتمد على الإنتاج الزراعي، ويقع غالبية الشعب فيه تحت خط الفقر، إلى بلد صناعي متطور. ماليزيا تحوّلت من دولة تعتمد على تصدير بعض المحاصيل الزراعية، وقليل من الموارد الطبيعية كالأخشاب والزيوت، إلى دولة قوية، يساهم قطاعا الصناعة والخدمات فيها بما يزيد على 90 % من الناتج المحلي الإجمالي. 85 % من السيارات التي تسير في الشوارع الماليزية صُنعت بأيدٍ ماليزية، وهذا رقم يدل على ضخامة التغيير المعرفي والاقتصادي الذي عصف بماليزيا خلال عقدين من الزمان. كانت المعرفة العامل الرئيسي في زيادة الرخاء والازدهار في المجتمع الماليزي؛ إذ ارتفع دخل المواطن لأكثر من سبعة أضعاف خلال ثلاثة عقود.
بعد خطاب مهاتير الشهير أطلقت ماليزيا ما يعرف بخطة ماليزيا السادسة 1991 - 1995، التي دامت أربع سنوات، ومهدت الأرضية لإطلاق الخطة التالية. في عام 1996 أطلقت ماليزيا خطة التحول المعرفي (الخطة الماليزية السابعة 1996 - 2020)، أو ما يعرف هناك برؤية 2020. احتوت الخطة الماليزية السابعة على الكثير من المبادرات وخطط العمل لتحويل ماليزيا إلى مجتمع معرفي بحلول العام 2020 بالتركيز على تأهيل رأس المال البشري، وزيادة الاهتمام في مجالات التطوير والبحث العلمي، والتوسع في مجالات وحلول التصنيع التكنولوجية بما ينافس مثيلاتها في اليابان وكوريا. الأخيرة اتخذتها ماليزيا مثالاً في النقلة المعرفية، بينما وضعت الأولى هدفاً تطمح لمنافسته.
قد لا تختلف الدروس المستفادة من تجربة التحول الماليزي المعرفي عن غيرها من الدول الأخرى إلا متابعة مستويات النمو المستمرة في الاقتصاد الماليزي، الذي قاوم فترات ركود اقتصادي آسيوي وعالمي، يجعلك تدرك أن ماليزيا حققت الكثير من الإنجازات، وهي ما زالت تخطو في طريقها نحو المجتمع المعرفي. كيف سيكون أداؤها عندما تصل؟ أين سيكون مكانها بين مصاف الدول المتقدمة عندما تتحول إلى مجتمع معرفي بالكامل؟ أما أهم الدروس المستفادة من التجربة الماليزية فهو استمرار محافظة ماليزيا على هويتها الدينية، بل إن مستويات التدين وأداء الواجبات الدينية زادت معدلاتها منذ نهضتها الاقتصادية.
ختاماً، الأديان لا تعارض التطور، ولكن من يتلحفون بردائها هم من يقف عقبة أمام التقدم والتطور خوفاً من أن يمضي قطار الزمان والمكان ويتركهم في غياهب وكهوف الماضي السحيق.
السعودية والأنموذج الكوري
لماذا تريد السعودية تبني الأنموذج الكوري في التحول إلى مجتمع المعرفة؟ الإجابة تكمن في أسباب عدة: أولاً: كوريا لا تملك أي موارد طبيعية، واستطاعت خلال فترة قصيرة التحول إلى الاقتصاد القائم على المعرفة وتحقيق نجاح باهر، بالرغم من مرورها بأزمات اقتصادية وسياسية متعاقبة. وكوريا أول بلد يُنشئ وزارة للاقتصاد القائم على المعرفة. أيضاً المعهد الكوري للتنمية هو عراب التحول الاقتصادي والمعرفي في كوريا، ويمتلك خبرة هائلة في وضع الاستراتيجيات وخطط العمل في التحول المعرفي في خبرة تزيد على 34 سنة، ويعد من أفضل وأقدم المراكز البحثية في العالم. النظام التعليمي في كوريا يتشابه مع نظيره في السعودية في تكونه من 3 مراحل تعليمية مقسمة على 12 سنة دراسية. أخيراً، المجتمع الكوري يملك هوية وطنية مميزة، ويمتلك الكثير من العادات والتقاليد الخاصة به، ويتمتع بخصوصية تميزه عن غيره، وهو شبيه بالمجتمع السعودي بتفرده واختلافه عن المجتمعات الأوروبية المتحررة.
في النهاية، السعودية مقدمة على نهضة تنموية واقتصادية ومعرفية ضخمة، ستغير من واقع وحاضر ومستقبل أبنائها. الخطة السعودية في التحول المعرفي وُضعت بالتعاون مع عدد من بيوت الخبرة العالمية، وفُصلت على حسب مواصفات واحتياجات البلد. بالرغم من أن العمود الرئيسي في استراتيجية التحول المعرفي بالسعودية قائم على التجربة الكورية إلا أننا نأمل أن نحاكي التجربة الفنلندية في نجاحها الباهر، والتجربة الكورية في حفاظها على هويتها الوطنية، والتجربة الماليزية في حفاظها على هويتها الدينية. ختاماً، نحتاج نحن المواطنين إلى مواكبة هذه النقلة المعرفية الوطنية بإحداث نقلة معرفية شخصية على جميع الأصعدة، تبدأ من العمل الجاد، وانتهاء بمحاولة الابتكار وخلق الجديد. على الحكومات التخطيط، وعليك أنت التطبيق، فماذا أنت فاعل؟