الطهارة الناقصة
* توضّأتُ ولبستُ الجوارب (والشرّاب) - أعزكم الله - ثم انتقض وضوئي، فمسحت عليها، وبعد ذلك نزعتها وأنا على طهارة ولم تنتهِ مدّة المسح، وكان الجو بارداً جداً فلبستها من جديد، فهل هذا صحيح؟
- فعلك هذا يا أخي ليس بصحيح، بل بمجرد نزعك ما مسحت عليه من جورب أو خُف تبطل الطهارة ولو أعدتها؛ لأنك لما أعدتها لبستها على طهارة ناقصة، ولو قلنا بمثل هذا القول - وقد قال به جمع من أهل العلم - للزم عليه بطلان تحديد المدة؛ لأنك إذا خلعت ما مسحت عليه فلا يخلو إما أن تكون طهارتك كاملة، أو ناقصة.
فإن كانت كاملة فإذا بقي فرض من الفروض الخمسة التي مدتها يوم وليلة اخلع ما مسحت عليه وأنت على طهارة، ثم ارجع فالبس هذا الممسوح لتبدأ المدة من جديد، وهكذا، فلا تغسل رجليك أبدًا! وحينئذٍ يلزم على هذا القول إبطال المدة التي جاء تحديدها عن النبي - عليه الصلاة والسلام - [مسلم: 276]، وما لزم على القول الباطل لا شك أنه باطل.
وإذا قلت إنها طهارة ناقصة، بمعنى أنك مسحت ثم خلعتَ والقدمان ليسا مغسولين، وليس عليهما شيء ممسوح، فلا يجوز لك أن تدخلهما الخفين؛ لأن الطهارة ليست كاملة، وحينئذٍ يختل ما جاء في حديث المغيرة -رضي الله عنه- وغيره من قوله -عليه الصلاة والسلام-: «دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين» [البخاري: 206]. فهذان احتمالان، إذا مسح على الخف أو الجورب أو (الشرّاب) - كما في السؤال - ثم نزعه نقول: يا أخي هل طهارتك كاملة أو ناقصة؟ فمن يقول بأنّ خلع الممسوح لا أثر له في الطهارة مثل حلق الرأس بعد مسحه يقول: الطهارة كاملة. نقول: يلزمك على هذا أنك إذا مسحت أربعة أوقات وبقي الخامس فخلعت الخف؛ إذ لم تتم المدة، ثم لبسته مرة ثانية، أنك تستأنف المسح، ولا قائل بهذا من أهل العلم. فلماذا لا يلبسهما ورجلاه طاهرتان والطهارة كاملة - كما زعم -؟! ما هذا إلا لنقص في طهارته. وإذا كانت الطهارة ناقصة فحينئذٍ لا يجوز المسح على الخف الذي لبسه على طهارة ناقصة، كما أنه لا يجوز له أن يصلي برجل كانت مغطاة بخف وممسوح عليها ثم خلعها؛ لأن الطهارة ناقصة. وقياس نزع الخف على حلق الرأس بعد مسحه قياس مع الفارق؛ لأن مسح الرأس طهارة أصلية، ومسح الخف طهارة فرعية، والعلماء - ومنهم شيخ الإسلام في (الاختيارات) - يفرقون بين الطهارة الأصلية والطهارة الفرعية. وأول من قاس نزع الخف على حلق الرأس هو شيخ الإسلام -رحمه الله -، لكن هو نفسه يفرق بين ما إذا كانت الطهارة أصلية أو فرعية. ولا شك أن مسح الرأس من الفروض الأصلية، وأما مسح الخف فإنه فرع عن غسل الرجل.
***
هم الذين لا يرقون
* أشكل عليّ في حديث الذين يدخلون الجنة بغير حساب رواية في صحيح مسلم بلفظ: «هم الذين لا يرقون»، كيف نوفق بينها وبين رقية النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض أصحابه؟ نرجو البيان والتفصيل.
- لا شك أن هذه اللفظة في (صحيح مسلم)[220]، وما في (الصحيحين) تجب صيانته، لكن من أهل العلم من يقول: إن هذه اللفظة غير محفوظة؛ لأن الراقي محسن فلا يلام وقد أحسن، بل هو مثابٌ على إحسانه، ولا شك أن هذه المنزلة - وهي منزلة من اتصف بهذه الأوصاف التي يترتب عليها دخول الجنة بغير حساب ولا عذاب - لا شك أنها منزلة عالية ورفيعة، لا تحصل لغالب الناس؛ فهي منزلة رفيعة، لا يمكن أن ينالها إلا من حُدِّد في الحديث، ووُصف به. فإذا كان محسنًا - وهذا ما يرجحه شيخ الإسلام - يترجح القول بأن هذه اللفظة غير محفوظة. ومنهم من يقول: إن اللفظة محفوظة، ولاسيما أنها في (صحيح مسلم). والملاحظ في جميع ما جاء في الحديث الالتفات إلى السبب. ولا شك أن المسترقي ملتفت إلى السبب، والمكتوي ملتفت إلى السبب، وكذلك الراقي حينما يرقي ملتفت إلى السبب وإن لم يكن ملتفتًا إليه في نفسه إنما التفت إليه في غيره، فهو محسن لكنه مع إحسانه غلب على ظنه تأثير هذا السبب فالتفت إليه، فحَسْمُ المادة بالكلية (لا يرقي ولا يسترقي) هو الذي يُحقق كمال التوكل الذي يستحق به هذه المنزلة. هذا على قول من يقول: إن اللفظة محفوظة. وأما على القول بأن هذه اللفظة ليست محفوظة فلا إشكال، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- رَقى [البخاري: 5743]، وأيضاً رُقي [مسلم: 2186]، رقاه جبريل - عليه السلام - لكنه لم يطلب الرقية. وبعض الناس يطلب الرقية لا لنفسه، وإنما يسترقي لولده -مثلًا - فهل يدخل فيمن حُرِم هذا الثواب العظيم، أم نقول: إنه لم يطلبها لنفسه وإنما طلبها لغيره فهو محسن مثل الراقي؟ على القول بأن هذه الرواية غير محفوظة لا يتأثر موقفه.
كذلك قد ورد في هذا الحديث قوله: «لا يكتوون»، وجاء في حديث عمران بن حصين - رضي الله عنهما - أنه كان في مرضه تسلم عليه الملائكة فاكتوى فانقطع التسليم؛ فندم فعاد التسليم [مسلم: 1226]. فافتَرِضْ أن الإنسان رقى أو استرقى، ثم ندم على ذلك؛ ليدخل في السبعين ألفًا، هل نقول: إنه يدخل كما أن عمران بن حصين -رضي الله عنهما- لما ندم على الاكتواء عاد إليه التسليم مع أن التسليم منزلة قد تكون أرفع من منزلة السبعين ألفًا وأخص؟ فهل يعود الوصف الوارد في هذا الحديث إليه إذا ندم؟ هذه مسائل تحتاج إلى مزيد من العناية.
وأيضاً بعض الناس لا يطلب الرقية، لكنه يتحراها، فيكون مريضًا، ومن دخل عليه عرف من حاله أنه متَشَوِّف للرقية، فمن حرصه على الدخول في الحديث لا يطلبها، لكنه يتصرف بعض التصرفات التي تجعل الداخل عليه - ولاسيما إذا كان من أهل العلم ومن أهل الفضل ومن أهل الورع الذين يُظن أنه تستجاب دعوتهم وتنفع رقيتهم بإذن الله جل وعلا - تجعل الداخل عليه يفهم مراده، فيتصرف المريض تصرفًا كأنّه يقول: ارقني، لكن بلسان حاله لا بلسان مقاله، كأن يفك أزرار الثوب مثلاً، فهل يتأثر ويكون ممن استرقى، أم أن السين والتاء للطلب ولا يكون إلا بالصريح؟ وقد رأينا بعض الشيوخ الكبار من أهل العلم والعمل إذا دخل عليهم بعض العلماء من أهل الفضل والصلاح فتح الأزرار، ولا يقول له: ارقني، لكن يفتح الأزرار، كأنه يشير إلى أنه يطلب الرقية بلسان حاله لا بلسان مقاله.
يجيب عنها - معالي الشيخ الدكتور عبدالكريم بن عبدالله الخضير - عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء