د. حمزة السالم
المُلاك سواء أكانوا من الأثرياء أو التجار هم من يضع الأنظمة والقوانين في مجتمعاتهم، مباشرة (كاللجان والمجالس) أو بطريق الإيحاء والتأثير الاجتماعي (بعقد الصداقات والمصاهرات مع السياسيين). والإنسان ظالم لنفسه فطرة، فهو لغيره أظلم. ولهذا فالأصل في الأنظمة والقوانين هو تلبسها بلباس الاستغلالية المقصودة من القلة الثرية للكثرة. فإن سلمت من ذلك، فلن تنجو من سيطرة الروح الأنانية الفردية، اللاشعورية. وفي هذا قال المتنبي: (الظلم من شيم النفوس فإن تجد... ذا عفة فلعلةٍ لا يظلم)
فبما أن تمركز الثروة في القلة هو حتمية كونية من سنن خلق الله لقيام الاقتصاد والسوق، وبما أن تقارب القلة الثرية مع القلة السياسية هو أمر حتمي اجتماعياً، فلا يمنع الاستغلالية في الأنظمة ويوقظها من غفلة أنانيتها، إلا أن تصطدم بثقافة فكر اجتماعية واعية.. وشواهد ذلك كثيرة.
فمن الشواهد الضرائب في المجتمعات المتقدمة الواعية غالبها من الدخل (أرباح الشركات وأجور الوظائف والأعمال). بينما في المجتمعات الأقل وعياً تجد الضرائب غالبها يفرض على السلع. والضريبة على السلع هي ما تسمى بضريبة القيمة المضافة، والتي تنوي دول الخليج فرضها، وهي ضريبة تصاعدية. أي أن نسبة اقتطاع الضرائب من الدخل تكون أعلى كلما انخفض دخل الشخص. فلو افترضنا 5 % ضريبة على السلع، فذو الدخل المحدود يصرف دخله كله على المشتروات.. وهذا يعني اقتطاع 5 % من دخله. وكلما زاد دخل الشخص انخفضت نسبة استهلاكه لدخله كله، وبالتالي تنخفض نسبة اقتطاع الضريبة من دخله حتى تصل نسبة الضريبة للدخل، إلى قريب الصفر للأثرياء.
ومن الشواهد، الإعانات فهي معكوس الضرائب.. فالمساواة فيها تعني أنها تنازلية. كلما ارتفع دخل الشخص ارتفع مستوى استفادته من الإعانة.
ومن الشواهد، صرامة الدولة أو تهاونها في تحصيل حق الملاك لإيجارات عقاراتهم. ففي أمريكا مثلاً تجد القضاء هناك يميل لصالح المماطل والمتعثر عن سداد إيجار سكنه، مما يرفع مخاطرة التأجير. وبارتفاع مخاطرة التأجير، ينكمش الطلب على العقارات التأجيرية، نظراً لقلة المؤهل ائتمانياً، والراغب في استئجار سكنه بدلاً من تملكه. وبالتالي تنخفض الإيجارات. وبارتفاع مخاطرة التأجير، يتحقق توجيه السوق العقارية للاستثمار في عقارات التمليك، لا التأجير. وفي جانب التمليك، فترى أن خلق القضاء الأمريكي قد وضع عوائق كثيرة تجعل من المستحيل للبنك أن يتعدى المنزل المرهون في حالة التعثر، وسن قوانين تجرم استيلاء البنك على آموال المقترض عندها، فضلاً من أن تمكنها من حقه في المواطنة، كمنع سفر وعمل وغيره.
بينما في المجتمعات الأقل وعياً، تجد مفهوم القلة الثرية هو الغالب.. ففي هذه المجتمعات تطبق قوانين إخلاء المستأجر بصرامة عند التعثر في السداد. وبدعوى التشجيع على الاستثمار في العقارات السكنية التأجيرية. وبوجود بديل عن التملك، يقل الحافز لتملك الفرد لمنزله، وبالتالي تزداد قوة القبضة الاستغلالية الثرية على الكثرة فيسهل تسخيرها. وتجد كذلك تسليط البنوك على أموال المقترض كراتبه ووديعته وادخاراته الحكومية والخاصة.. بل وتسليطها حتى على حياته، فتمنعه السفر والعمل، وعلى كل ما يتعلق بحقوق مواطنته.
ومن الشواهد العقوبات المالية.. فمخالفة النظام أو الإضرار بالغير، تجد عقوبته ثابتة القيمة، في المجتمعات الأقل وعياً. وهذا يعني إعفاء القلة الثرية من الالتزام بالأنظمة. فالعقوبة المالية الثابتة القيمة لا تعني شيئاً لهذه الفئة فهو لا يكترث بها، بينما تقصم ظهر الفرد من الكثرة ذوي الدخل المحدود. فيلتزم الضعيف بالنظام دون القوي.
وأما في المجتمعات الواعية فالعقوبة المالية ليست ثابتة القيمة. فهي تزيد بقدر زيادة ثراء المخالف للنظام أو المحدث ضرراً بالغير. وذلك لتحقيق العدالة في المساواة في الردع عن المخالفة، وعدم الاكتراث بالإضرار بالآخرين.
والشواهد أكثر من أن يحصيها كتاب، وما سبق يكفي لإثبات أهمية الفكر في ثقافة المجتمعات. ودلالات حديث الفكر الذي تحدث به وزير الإسكان تشهد؛ والله أعلم على قصد نبيل.
وزير سبق للجلوس مع الشارع والحديث معهم، قبل جلوسه على كرسيه في الوزارة، ودراسته لمفات وزارته. فما عساه أن يقول؟.. فبث هموم فكر مجمتعه الذي خلق مشكلة الإسكان، في عقود سابقة. وهل مشكلة الإسكان إلا نتيجة أنظمة سابقة؟.. وهل تحكي الأنظمة إلا فكر ثقافة المجتمع.
فهاهي ضرائب الأراضي، وهاهي إعانات الاستثمار والقروض العقارية وها هو نظام التنفيذ صمم لزيادة الاستثمار في العقار التأجيري، بينما تباطأ عن أنظمة التمليك. وها هي البنوك والشركات، على ترتكب المخالفات، فإن انكشفت دفعت غرامة لا تساوي عندها قيمة فنجال الشاهي عند من أضرت به. فتضيع حقوق المساهمين الضعفاء، بينما تسلطت بالنظام على الضعيف في ماله ومعاشه ومواطنته.
فسارع الوزير لمشاركة الشارع همومه وهمومهم واستدعى آرائهم وناشدهم أن يعينوه على التغلب على عوائق الفكر القديم المتأصل عندنا. ففي مسارعة الوزير لمخالطة الشارع دلالة صريحة على حمل همومهم. فمن هموم الشارع استعلاء المسؤولين عنه، وعدم حديثهم مع العامة.
ودلالة أخرى على نبل مقصد الوزير ظاهر بوضوح، في احترام الوزير لعقول الشارع بأنه حدثهم بهموم الخاصة، هموم عوائق الإنجاز. فالإسكان ملف موغل في مصالح الأثرياء والتجار، فالعقار لعقود طويلة، سيطر بمفرده على التجارة في بلادنا.
فغالب الوزراء لا نعرف وجوههم، ومن نعرف شكله فمن خلال أحاديث رسمية عامة. أحاديث عامة، حقيقة معانيها، الاستعلاء على الشارع واعتقاده أن أي حديث جدي لن تفقهه عقول الشارع. وعموماً فلا بد أن أشير إلى أن ردة الشارع السلبية ضد الوزير على ما فيها من تضحية على حساب الحقيل، إلا أنها خطوة إيجابية لتغيير ثقافة تصريحات الوزراء والمسؤولين. وأخشى ما أخشاه أن تكون نكسة، فيتخذها الوزراء المحتجبون عن الشارع ذريعة لزيادة الحجب والتبرير لها.