د. حمزة السالم
حل معضلة الإسكان تبدأ من تخفيض كلفة السكن والتأكد من استمرار انخفاضه أولا، ثم تنتقل بعد ذلك لدعم المواطن لكي يشتري مسكنه عن طريق الحلول التمويلية، لا العكس. لذا فالمشكلة تبدأ أولاً من الأراضي ثم التأكد من وجود المطور وأنظمته وإمكاناته وأهليته، ثم بعد ذلك التأكد من وفرة أدوات البناء ومواده ووضع خطط حل أي شح يمكن أن ينتج من طفرة عمرانية، ثم من بعد ذلك تأتي حلول تسهيل التمويلات. وإما أن تكون البداية هي توفير التمويلات دون تخفيض الكلفة أولا فهذا لا يُفهم منه إلا أنه لغرض تصريف الموجود وإشعال سوق العقار.
وحتى ولو جاءت تسهيلات التمويلات بعد تخفيض الكلفة، ولكن قبل وجود خطط واضحة لتجنب ارتفاع كلفة المطور ومواد البناء، وبالتالي وقوع انهيارات سوقية بعد فترة غلاء حتمية، فيخسر الناس أموالهم، وتضيع إعانات الحكومة لهم، وما يتبع هذا من مشكلات اجتماعية وسياسية. فنقص النظر في هذه الحالة، لا يُفهم منه إلا جهل بالسياسة العامة.
هذه بدايات طلائع مخاطر تسليم القطاع الخاص لمشاريع التخصيص، وشاهدي في الفرق بين طريقة تفكير عقلية القطاع الخاص المحصورة في نطاق جزئي وطريقة تفكير الاستراتيجي العام.
ولا أعتقد أن وزير الإسكان الحالي له دور في القرض المعجل، إنما هي من بقايا الأمس. ففكرة القرض المعجل هي نسخة ممسوخة مقلدة من أحد النماذج التمويلية التي كنت أطرحها في مقالاتي كأمثلة للحلول التمويلية أو من مبادرة مشروع مجموعة الإسكان في برنامج السعودية اكسفورد للقيادة والادارة المتقدمة بقيادة واشراف الشهم النبيل المهندس عبد الله الرخيص، التي قُدمت لرئيس هيئة الإسكان قبل أن تتحول إلى وزارة.
والتقليد بلا عمق فهم المصاحب بعدم اتساع إدراك للمسألة، يمسخ الجميل فيُصيره قبيحا ويمسخ المعروف فيجعله جحوداً ويقلب الفرصة إلى نِقمة.
فأساس فكرة القرض المعجل منبعث من الفكر الاقتصادي لتحقيق الاستغلال الأمثل من الإعانة. وذلك عن طريق تركيب الإعانة في معادلة رياضية ينتج عنها مضاعفة المقدرة المالية للإعانة أضعافا كثيرة. ولكل حالة عالم فكر إبداعي خاص بها.
فالاقتصاد هو فهم السلوك الإنساني والاجتماعي والسياسي في محيط السوق، لذا لن يفلح المستشار الاجنبي في إيجاد الحل الأمثل مهما بلغ علمه وخبرته. ولهذا أيضا، فمجرد التقليد لنموذج ناجح أو نموذج مقترح، دون فهم وإدارك واسع، فمصيره المسخ كما حصل في القرض المعجل.
فالقرض العقاري إعانة لم يدخلها أي تفكير اقتصادي مطلقا. فكانت النتيجة أن صرفت عشرات المليارات بخسارة اقتصادية واجتماعية وسياسية وإنسانية بغياب تحقيق العدالة والمساواة. فخسارة الدولة لنصف الاعانة لم يعد بعائد يغطيها اقتصاديا، وبما أن الدولة تقدم القرض بدون إدخال أي من فكر اقتصاد الاعانات عليه. فلهذا، سرعان ما شحت السيولة. وازدحمت طوابير الانتظار وتململ الناس، وأخذ الغني القرض قبل الفقير، وانعدم شعور الناس بالمنحة المجانية التي يأخذونها، فالقرض يُسدد للدولة كاملا، فلا فضل لها في اعتقادهم، فانقلبت عوائد الاعانة السياسية والانسانية إلى الخسارة بدلا من الربح.
وقد جاء القرض المعجل اليوم للوزير على ذهب، ليقلب الأمور بعد حنق الشارع، فتحققت أرباح سياسية واجتماعية وإنسانية مضاعفة، مسبوقة بأرباح اقتصادية عالية.
والفكرة بسيطة. فالدولة تخسر في القرض العقاري نصفه تقريبا، في حالة التزام المواطن بالسداد. فبتعديل بسيط ذكرت له أمثلة كثيرة في مقالاتي السابقة، ترتفع طاقة الصندوق العقاري إلى عشرة أضعاف.
فبدلا من اعطاء المواطن 500ألف، يصبح القرض عن طريق البنوك ويتفاهم معها مندوب أذكى منهم وأقدر ليمده لخمسة وعشرين عاما، ويتحمل الصندوق الفوائد تماما كما هو في القرض المعجل.
ويمكن حتى عدم اتباع طريقة سداد القرض بثبات استهلاك أصل القرض، -إن أمكن إداريا - لكي تصبح الدفعة الاولى علي المواطن 972 بدلا من الدفعة الشهرية 1666.6ريال شهريا ويكو ن ذلك لجميع الشرائح، وعلى كل حال، فالقرض يُسدد في ثلاثمائة شهر بلا فوائد على المواطن.
وبافتراض معدل فائدة 4%وهو افتراض معقول اذا دخلت بعض الضمانات الغير مكلفة، . وهي تساوي تقريبا 2.3% هامش ربح. فمجموع الفوائد سيكون من 250 الفا - 300- الف حسب نموذج ثبات سداد القرض أو عدمه. وهذا لا يؤثر إلا بفارق الف ريال زيادة كلفة على الصندوق، لأن الصندوق العقاري سيدفع الفوائد مقدماً والتي ستكون أقل من أربعين ألف ريال.وبذلك يستطيع الصندوق ان يقدم نحو 13 قرضا بدلا من قرض واحد. وإن قيل إن الصندوق يريد تغذية مقابلة لا محالة، فبالإمكان فعل ذلك وبسهولة بتغيير بسيط في النموذج ليعود للصندوق جميع ما صرفه، أو مثل ما يعود عليه الآن في النموذج المتبع في القرض العقاري.
فالصندوق اليوم يقرض 500 ألف ويعود عليه حقيقة نصفها تقريبا خلال الخمسة والعشرين عاما.
القرض العقاري إعانة حكومية هدفها امتلاك المواطن موطنا له في وطنه. وهذا هدف إنساني سياسي اجتماعي امني اخلاقي. فتملك الملكية يُحفز المشاعر بالمواطنة ومسئولياتها. ولهذا حرص آباؤنا على عدم تملك ابنائهم المبتعثين في بلاد دراستهم. ولهذا بذلت الدول جهودا شتى لتحقيق هذا الهدف. ولهذا حرص المؤسس الأول على الاستثمار في إقامة الهجر والتوطين.
وقد بدأت مشكلة الإسكان بالتعاظم مع ازياد عدد السكان ومع تغير ثقافة البيت الكبير الذي يجمع جيلين أو أكثر من العائلة تحت سقفه. واصبح الاسكان معضلة مع الغفلة عن مشكلة الاأراضي. واليوم قد اصبح خطرا مع هجوم القطاع الخاص عليه بحجة التخصيص، بفكره الربحي المحدود الأجل والغاية. فالقطاع الخاص وحش لا يرحم، ولولا ديمقراطية الدول الغربية وحرية الصحافة، لقاد القطاع الخاص تلك الدول للدمار والحروب الداخلية.
وحش التخصيص قد أطل من القرض المعجل! ومن الممكن، بمرونة القطاع الخاص مضاعفة قدرات القرض العقاري عشرة أضعاف ،ومن الممكن كذلك إعادة توجيهه في بناء مخططات، فتكون العوائد على الدولة آلاف بالمائة بدلا من التسعة بالمائة التي يسعى لها الصندوق.
فأي ثوب سيلبسه الوزير؟ ثوب رافال التجاري وعقال التمويلات البنكية، أم سيلبس ثوب المؤسس الأول الاقتصادي ويتعمم بعقاله السياسي.