إبراهيم عبدالله العمار
من أحسن الكتب التي قرأتها كتاب «كيف صنع الإسلام العالم الحديث» للمؤلف مارك غراهام، وهو كتاب نادر لأنّ الغربيين قلّ ما يكتبون عن الإسلام بتجرد وموضوعية، وما قرأتُه في كتبهم عن تاريخ المسلمين لا يخلو إما من حقد واضح أو جهل فاضح، لذلك كان هذا الكتاب تغييراً منعشاً، وقد رأينا في مواضيع سابقة قطفات من هذا الكتاب، مثل تميّز المسلمين في الماضي بنشر الكتب والترجمة واقتناء المخطوطات، حتى كنا سادة العالم في العلم والحضارة، ورأينا كيف أن المستشفى بصورته المعاصرة اختراع إسلامي ظهر في عصر هارون الرشيد رحمه الله، و غير ذلك.
يكمل مارك غراهام في كتابه الإقرار والإشادة بإنجازات المسلمين والتي غيّرت وجه العالم بأكمله اليوم، ويتكلم عن محمد بن جابر البتاني، والذي عُرف بلقب»بطليموس العرب» إشارة إلى العالم اليوناني الشهير بطليموس، فيذكر أنّ كتابات البتاني عن حركة القمر والنجوم والكواكب بغاية الأهمية حتى أنها اقتبست بعده بستمائة سنة من قِبل كوبرنيكوس وغاليليو. الترجمة اللاتينية لكتاباته الأساسية كانت منهجاً دراسياً ضرورياً لعلماء الفلك الأوروبيين في عصر النهضة وأبحاثه عن الكسوف والخسوف استمرت تُدرَس حتى القرن الثامن عشر. وكالة الفضاء ناسا سمّت إحدى فوّهات القمر باسمه تكريماً له.
أيضاً يذكُر محمد بن أحمد البيروني وعلومه. حسب البيروني محيط الأرض بدقة مدهشة نسبة الخطأ فيها فقط 50 ميلاً، هذا في وقت كان الأوروبيون يعاقبون من يقول إن الأرض كروية، وتكلم البيروني عن دوران الأرض حول محورها قبل الأوروبيين وحسب جاذبية بعض المعادن بدقة شديدة.
وليست إسهامات المسلمين البيضاء فقط في مجال العلم بل حتى في السياسة والحروب، وقبل ذِكر ما قاله غراهام عن هذا، يجدر أن نذكر أنّ مئات الملايين من البشر يدينون بالفضل لله ثم لجيوش الإسلام التي حررت بلاد أجدادهم من الكفر حتى لو كانوا يكرهون هذا وقاوموا المسلمين، وقد قال رسول الله عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري: «عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل»، ومن أصح تفسيرات الحديث أسرى الحروب من الكفار في السابق لما أُسروا ثم رأوا الإسلام عن قرب فأسلموا. لكن حتى الأمم التي لم تُسلم فقد عاشت بأمان بسبب المسلمين، وهذا تحديداً في تلك الفترة الفريدة المخيفة في التاريخ البشري وهي اجتياح التتار، فلم يكتفوا بغزو بلاد الإسلام بل حتى أوروبا لم تسلم منهم، و نأتي الآن لكلام غراهام فيذكّر الغربيين أن انتصار المسلمين على التتار في معركة عين جالوت الفاصلة أنقذ أوروبا منهم. لولا هذه المعركة لما انتهت العصور المظلمة ولما بدأ عصر النهضة. في عام 1257م أخمد بركة خان زعيم التتار ثورة ليتوانية وبولندية أخرجت التتار مؤقتاً من منطقة فولهينيا في شرق أوروبا، وسحق شمال بولندا بوحشية وأباد مدينة كراكاو تماماً. استنجد البابا الكسندر الرابع بالنصارى لينقذوا بولندا بلا طائل، وكفَّر البابا الكاونت بوهيموند لتحالفه مع التتار في الشام. رأى الصليبيون - وكان لهم آنذاك مستعمرات في ديار الإسلام من مخلفات الحروب الصليبية - أن التتار سيدمرون الغرب النصراني لو انتصر التتار على المسلمين، فسمحوا للمسلمين أن يمروا بلا أذى بل وباعوهم مؤونة وتركوهم يذهبون ليقاتلوا التتار في تلك المعركة التي غيرت وجه التاريخ.
لنا تاريخ ناصع، وتحية إلى مارك غراهام وإنصافه للمسلمين.