د . عبد الله بن محمد أبا الخيل ">
جعل الله سبحانه وتعالى، بيته الحرام حرماً آمناً، ومثابة للناس وأمناً، يحجه الناس و يعتمرون، ويأوون إليه، تهوي إليه أفئدتهم، وترتاح له قلوبهم، فهو بلد الأمن والأمان، والاستقرار، كانت فيه وسائل التنقل والعيش الهانئ من الصعوبة بمكان، ثم أنعم الله على البشرية بوسائل الراحة ورغد العيش؛ فلم تأن ولم تقصر هذه الدولة المباركة، منذ أنعم الله عليها بخدمة الحرمين، وذلك بتوفير جميع وسائل الراحة والأمن لقاصدي بيت الله الحرام.
لقد شهد القاصي والداني، والمنصف المحايد، بهذه الجهود العظيمة، مع ضيق المكان ووعورة تضاريسه، وهول الأعداد، وتعدد الجنسيات، واختلاف الألوان، واللغات، والثقافات، فعملت على تذليل كل المصاعب، وخدمة المعتمرين والحجاج، ولا يعرقل راحة الحجيج ولا أمنهم إلا سببان؛ في الغالب، لابد من ذكرهما:
الأول: اختلاف المقاصد، فهناك من يأتي للحج، وليس الحج هدفا من أهدافه، ولا من مقاصده، ولا غاية من غاياته، وإنما يريد التشويش، وإرباك الحجيج؛ وتخويفهم؛ وإيذاءهم؛ وتشويه الصورة الصادقة ناصعة البياض عن جهود دولتنا المباركة -حرسها الله وحماها- أمام العالم، فهؤلاء هم أهل الإجرام؛ والإفساد، وقد توعدهم الله بالعذاب الأليم، قال تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (سورة الحج، أية: 25).
لقد توعد الله أهل هذا الإجرام؛ وعلى رأسهم هؤلاء، بمجرد الإرادة؛ زيادة في التحذير، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}. لقد عرفت البشرية لهذا البيت قدره ومقامه حتى أهل الشرك، فقد علموا ما صنع الله بأصحاب الفيل؛ الذي قاده أبرهة الحبشي المجرم العتل العنيد، حينما قرر هدم الكعبة، ولكن ربك كان له، ولجيشه بالمرصاد، فأهلك الطاغية العنيد ومن معه، فأرسل عليهم جماعات من الطير تحصبهم بحجارة من سجيل، حتى أصبحوا كأوراق الشجر الجافة الممزقة، لقد أضل الله مكرهم، فلم يبلغ هدفه ولا غايته، فالله سبحانه وتعالى هو حامي بيته، وصائنه وحافظه من مكر الكفار، والمنافقين والفجار، فمهما أراد أهل الشر أن يصلوا إليه بشر، فلن يصلوا إليه بحول الله وقوته، فعلى مر التاريخ لم يعرف من عادى البيت إلا أبرهة؛ والقرامطة؛ والصفوية الحاقدة، فهم الذين يريدون لهذا البيت ألا تقوم له قائمة، ولكن بينهم وبين ذلك خرط القتاد، فتاريخ القرامطة مع حجاج بيت الله الحرام حادث لا ينسى مدى التاريخ، وما فعلوه من سرقة الحجر الأسود، يعرفه القاصي والداني، وما فعله صفوية العصر، ورافضة الدين، حينما أرسلوا أتباعهم وأشياعهم، لتفجير بيت الله الحرام، منذ سنوات عدة، فأمكن الله منهم، ورد كيدهم في نحورهم، حيث كشف مخططهم، قبل تمام فعلهم، وما فعلوه قبل ذلك وبعده، من مسيرات الشرك؛ وإيذاء الحجيج وقتلهم، ولكن الله أمكن منهم، فهؤلاء لا يفوتون فرصة، ليفسدوا على الحجاج حجهم، وعلى بلادنا أمنها، إلا ويستغلونها؛ ولكنهم دائماً يبوؤون بالخيبة والخذلان، بفضل الله ورحمته، ومهما فعلوا فلن ينجح كيدهم، فللبيت رب يحميه.
إن هدف هؤلاء أن يصدوا الناس عن دين الله، وأن يمنعوا المسلمين من الحج والعمرة إلى بيت الله، وإيذاء دولة التوحيد، ولكن آمالهم وأهدافهم لم ولن تتحقق بعون الله ومدده، فهذا البلد الآمن، وهذا المسجد الحرام، محفوظ بحفظ الله، محاط بعناية الجبار.
إن قوى الشر تسعى جاهدة لإثارة القلاقل في دول الإسلام، للسيطرة على خيراتها؛ وإفساد دينها، ولكن يمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين، وهذه الدولة بفضل الله -عز وجل-، لم ولن تكون عاجزة عن ردعهم، وقطع دابرهم، وتفتيت جمعهم، وحماية بيت الله من شرهم، فهي قوية بفضل الله، صارمة بالمحافظة على حرمات الله وحدوده، لا تأخذها فيه لومة لائم، ولا تنتظر موجهاً من العالم ولا مرشداً، وليست بحاجة إلى معلم أو ملهم فعندها الكتاب والسنة خير مصدر للأحكام، وصفوة علماء الأمة، وخيرة حكام الأرض، فلا تحتاج مزيداً، ومتعها الله بالخيرات، وجعلها بلداً أمنا يتخطف الناس من حوله، قال الله جل ثناؤه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ...}. سورة العنكبوت، آية (67)، إن دولة الشر التي تسعى لبث الشر في الحرمين الشريفين، تستنجد بعملائها وأتباعها، لإنفاذ مخططاتها السوداء، فتشتري من باعوا ضمائرهم للشيطان، من بعض الحجاج الذين يأتون من دول شتى للإخلال بالأمن، وإفساد تنظيم السير عند قطارات المشاعر، وقرب الجمرات، ولا ينجحون بفضل الله في غالب مخططاتهم، إلا كما ينجح الشيطان من استراق السمع، ولكن سرعان ما يفضحهم الله، ويكشف عوارهم.
لقد كان بيت الله قبل تولي هذه الدولة المباركة، تنقصه الخدمات؛ فأنعم الله على هذه الدولة بالخيرات، فأغدقت على بيت الله بلا منة ولا فضل -فالفضل لله وحده- ولكن كما جاء في الحديث الصحيح: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس».
لقد حكى شوقي ما كان يلقاه الحجاج قبل تولي هذه الدولة فقال أمير الشعراء في قصيدته الشهيرة:
ضج الحجاز وضج البيت والحرم
واستصرخت ربها في مكة الأمم
أهين فيها ضيوف الله واضطهدوا
إن أنت لم تنتقم فالله منتقم
أفي الضحى وعيون الجند ناظرة
تسبى النساء ويؤذى الأهل والحشم
ويسفك الدم في أرض مقدسة
وتستباح بها الأعراض والحرم
إلى آخر قصيدته، التي يذكر فيها معاناة الحجاج في زمنه، قارنوها بربكم بما يجده الحجاج من إكرام وأمن وأمان، من دولتنا حكومة وشعبا، لتعرفوا الفرق.
انظروا إلى رجال الأمن؛ وكيف يحمون الأعراض، ويسابقون الناس لسقيا الحجاج، ويرشون عليهم المياه الباردة ليخففوا عنهم شدة الحر، ويقابلونهم بابتسامة، دافعهم الإخلاص، وحب بيت الله الحرام، وما تعلموه وما وجهوا إليه، وأرشدوا من قبل ولاتهم، وقادتهم، وليس هذا للمزايدة؛ ولا لمديح كاذب، أو لرجاء دنيا فانية، بل هي وربي الحقيقة التي لا تخفى على كل ذي لب وعقل، ولا ينكرها إلا جاحد، ولن تطمسها، وتدفنها عين حاقد، وحينما نرى النجاح الذي حققته بلادنا بتوفيق الله؛ مقارنة بالأعداد الهائلة، والتضاريس المتعبة، والأيام المعدودة، والأماكن المحدودة، فعلينا أن نعلم أن هذا لم يتحقق إلا بفضل الله، ثم برجال صدق. يصدق عليهم قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا). فيجب أن نكون على وعي وإدراك لما يخطط له الأعداء، ونكون مع ولاتنا صفاً واحداً نقف أمام هذه الأبواق الناعقة، والأيدي الخفية، التي وعد خادم الحرمين -حفظه الله-بإيقافها عند حدودها، وبوأدها واجتثاثها من أصولها، أعانه الله على ذلك وسدده، ورد كيد أعداء ديننا وبلادنا في نحورهم.
السبب الثاني: عدم الوعي والإدراك من بعض الحجاج من دول محدودة، حيث لا يعرفون طريقة الحج الصحيح، والمنهج السليم فيه، فيظنون أن الحج باستخدام قوة الأجسام، ومصارعة الحجاج، فلا يعرفون الإيثار، ولا يفقهون معنى السكينة والوقار، ولا يعون عظم المشعر الحرام.
ولذا فلا بدّ أن تقام لهم الدورات في بلدانهم، وأن تزرع هيبة البيت الحرام في نفوسهم، وأن يعوا خطر إيذاء حجاج بيت الله الحرام، وأن يرشدوا إلى حرمة مخالفة أوامر رجال الأمن، فما استفحل الشر إلا بقلة الفقه، فلا بد أن نتخذ قرارات صارمة مع مثل هذا الصنف من الحجاج، وتصدر التعليمات لمطوفيهم، ومسؤولي الحج في بلدانهم على وجوب تعليمهم مناسك الحج، وإقامة الدورات لهم، قبل الحصول على تصاريح الحج، فنحن نرى أن هناك دولاً يحج حجاجها بانسيابية وهدوء، وطمأنينة، لم يذكر يوماً أنهم أحدثوا فوضى، أو قلاقل، أو حدثت منهم انفلاتات، أو مشاكل، فتعاون الدول معنا، يجب أن يكون حاضراً، حتى يتم النسك على أكمل وجه، وعلينا أن ننظر إلى أن هذا الحج لا بدّ فيه من فئات مختلفة، ففيه كبار السن، وفيه العجزة، وفيه المرضى، والمحافظة على أرواحهم مطلب؛ وواجب شرعي، يجب ألا يستهان به.. إن الدولة بفضل الله لن تتوانى عن معاقبة كل مقصر، وكل مؤذ مهما كان جنسه، ومهما كانت صفته، فحياة الحجيج لا تقدر بثمن، ورأينا عقوبات صارمة بحق مقاول حدث منه تقصير بنسبة محدودة، مع ذلك عومل بحزم؛ وفرضت عليه عقوبات رادعة خلال أيام معدودة، من حصول الحادث؛ ليتبين للعالم أنها لن تجامل المخطئ، إن كان من الداخل أو الخارج، فثقوا بالله، ثم بولاتكم، ولا تلتفتوا لبعض القنوات المعادية، والمواقع المأجورة، والصحف والمجلات المشبوهة.
إننا لا ندعي الكمال لدولتنا، ولكن البذل تم؛ والعطاء حصل، والاجتهاد وجد، والعمل على قدم وساق قام، باجتهادات بشرية، ولكن التوفيق من الله، والمرء لا يلام بعد اجتهاده، وإن حصل تقصير، فيجب أن يطمس في بحر الحسنات ويغمر، ولا ينسى النجاح الكبير بسبب حادث عابر، تدور حول أسبابه استفهامات كثيرة.
إنه من المضحك والمحزن المبكي في آن واحد، مطالبة دول عرفت بحقدها الدفين على عقيدة التوحيد وكرهها للسنة وأهلها، ولأزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، وصحبه الأخيار، بتدويل الحرمين، حتى يكون ألعوبة بين أيدهم، ويضلوا عباد الله، كما ضلوا، ويهينوا صفوة خلق الله، حجاج بيته الحرام.. عجباً لأمر هؤلاء، يفشلون الفشل الذريع في ترتيب زيارات الأضرحة الشركية الوثنية الكفرية، زوارها في ذروة مواسمها لا يتجاوزن عشرات الآلاف، مع أن الزيارة لمكان محدود، ولدقائق معدودة؛ لا يلزم حضور الجميع في وقت واحد؛ يطوف من خلالها الزائر حول الضريح ثم تنتهي طقوس عبادته، ويخرج ما بجيبه من مال لسدنته، وأضرحتهم في تضاريس منبسطة، فهل بربكم سينجحون؛ لو وكل إليهم الأمر بإنجاح موسم من مواسم الحج، مع سوء مقاصدهم وفساد معتقداتهم؟!.
إن ما يردده هؤلاء لا يعدو أن يكون ترويجًا للأكاذيب والأحقاد، لا قيمة له ولا أثر، ولا فائدة منه ولا ثمر، ردده من قبلهم أشياخهم، وسعى إليه كبراؤهم، فما حقق الله آمالهم، ولا حقق لهم أطماعهم، لقد أهلك الله صانع هذه الدعوة، ومن سار في فلكه، وحمى الله بيته الحرام من تدنيسهم، ومطامعهم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
- وكيل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية