د.عبد الرحمن الحبيب
«الاستعمار» لغوياً من الإعمار، كلمة كانت محببة للنفس استخدمتها الدول الغازية لتبرر تدخلها أخلاقياً؛ بداية لاحتلال قارة عرفت باسم أمريكا، ثم أفريقيا، فتوسعت الدائرة.. التبرير أن السكان الأصليين همج بحاجة للحضارة، والمفارقة أن الأدوات أكثر همجية لكن بتكنولوجيا قتل متطورة!
الآن كل الدول الكبرى فضلاً عن عشرات الدول بالعالم تدخلت (جادة أو غالباً منتهزة) في سوريا والعراق من أجل ضرب داعش. الواقع أن كل من شاء سيجد مبررات أخلاقية دامغة للتدخل بحجة داعش لأنه يمارس قتل البشر (الآخر أو الذات) كغاية بحد ذاتها للفوز بالجنة، فضلاً عنها كوسيلة دنيوية لإرعاب الخصوم..
فإذا كانت الأطروحة المشهورة «القابلية للاستعمار» تواجَه بالتشكيك، فإنها تغدو أكثر صدقاً مع داعش. يقول صاحب الأطروحة المفكر الإسلامي «العصراني» مالك بن نبي: «إن الاستعمار قد جاء إلى العالم الإسلامى نتيجة مرض أساسي عندنا، هو القابلية للاستعمار..» أي انجذاب العامل الخارجي للعامل الداخلي، واستجابة الأخير له. المسبب الرئيسي للمرض هو الانحطاط والتخلف الحضاري (عقلي واجتماعي)، مثل: تفرق المجتمع، الجهل، انحطاط الأخلاق من فردية وأنانية، وفقاً لطرح بن نبي. الحل، فى رأى بن نبي، هو الإصلاح الفكري والاجتماعي.
إذا كانت مفردة «الاستعمار» لغوياً إيجابية فهي اصطلاحياً من أسوأ الممارسات السياسية، حتى أن بعض الاصطلاحيين يفضل تسميته «الاستدمار». الأهداف الأساسية للاستعمار الحديث كما ظهر خلال قرنين ليست لعمارة البلد المستعمَر بل لاستغلاله اقتصادياً و/أو سياسياً لتحسين مركز الدولة المستعمِرة في تنافسها مع القوى الدولية الكبرى وتوسيع دائرة نفوذها، لتكون أكثر تأثيراً في القرارات الدولية لصالحها. أليس هذا ينطبق على المفردات التي تصاغ لتبرير التدخل الأجنبي باستثناء ما تقره الشرعية الدولية أو الإقليمية؟
الاستعمار انتهى، لكنه لا يعني بالضرورة نهاية القابلية له بصيغ أخرى، يقول بن نبي: «يجب تصفية الاستعمار في العقول قبل كل شيء، فتصفية الاستعمار من العقول تتطلب أشياء كثيرة يتضمنها مفهوم الثقافة ومفهوم الحضارة، فهي لا تتحقق إذن بمجرد انسحاب جيوش الاستعمار، ومجرد إعلان الاستقلال وتحرير دستور».
إذن، الحديث عن تحرير العقول، وليس فقط الجيوش! فقد كشف ما سمي «الربيع العربي» عن حالة خريفية في العقول.. قمع فكري في خطاب أغلب الحركات بما فيها التي يقال عنها معتدلة أو تنويرية حين ينفي بعضها البعض بلغة عنيفة. فحتى عند سحق داعش كتنظيم تدميري، فثمة «دويعش» صغير يظهر من مكامنه وينمو في خطابات كثير من التيارات المتخاصمة في العالم العربي ليشكل حالة داعشية تمثل الخطر الأكبر على المدى البعيد..
أما الآن فتلعب كثير من الدول الكبرى على ورقة داعش الجاذبة للتدخل كلٌّ لغرضه الخاص.. فإذا كانت الحلقة الأخيرة وليست النهائية في مسلسل الجذب الداعشي تجري أحداثها بالضربات الروسية، فإن المسلسل بدأ بالنظام السوري الذي أراد تخويف المجتمع الدولي ببعبع داعش كبديل عنه، حين مده بالعون ولو بشكل غير مباشر.
ليس هذا قول المحايدين فقط بل حتى اندفاعات أقوال ممثلي النظام، في بدايات صعود داعش، مثل ما كتبه العقيد محمد بركات أحد كبار ضباط الجيش السوري، في رد له على مرشح الرئاسة السورية آنذاك ماهر حجار، الذي انتقد تغاضي نظام الأسد عن داعش، ومما جاء فيه: «عدو عدوك صديقك... إن مقرات داعش وإحداثياتها معلومة لدى الجيش السوري وسلاح الطيران وأرتالهم مكشوفة، بل إن أرتالهم قد تمر بالقرب من قواعدنا ولكن إن يقال في المثل: إذا رأيت عدوك يدمر نفسه فلا تقاطعه.. قيادة الجيش السوري تملي عليها حكمتها التغاضي مؤقتاً عن داعش بل وربما تقويها إن تطلب الأمر ما دامت تحقق لنا فوائد عظيمة...».
استمر المسلسل بعدما أعلنت أمريكا بدء ضرباتها الجوية ضد داعش، وظن كثيرون أنها جادة وأن أيام داعش صارت معدودة. لكن تبين أن تلك الضربات كانت قليلة جداً وخجولة، وكانت للحد من تمدد تنظيم داعش ولتحسين مواقع خصومه وليس لسحق هذا التنظيم الذي أظهر تمدداً في بعض المواقع وانحساراً في بعضها، وزيادة في استقطابه للجهاديين ولعقول المتطرفين..
ومشابه لذلك عندما أعلنت تركيا بدء ضرباتها الجوية ضد داعش، فتبين أنها ضد الحركات الكردية التي تواجه داعش.. ثم فرنسا فبريطانيا.. والآن جاء دور الروس، وبتنا نعيد ذات السؤال هل الضربات الروسية لسحق داعش أم أنها كما نشاهد -حتى الآن- قليل منها ضد داعش والنصيب الأكبر تتلقاه الحركات السورية المعارضة، فصار داعش يتقدم على حسابها! أم أن التدخل الروسي في سوريا له علاقة بالمصالح الروسية في تنافسها مع القوى الكبرى أكثر مما هو متعلق بالشرق الأوسط؛ مثلما نقلت التايمز البريطانية عن دبلوماسيين قولهم إن مصلحة روسيا في سوريا لا علاقة لها بالمنطقة، بقدر رغبة موسكو باستخدام التدخل وسيلة ضغط على الغرب لقبول تدخلها في أوكرانيا.
الحالة الداعشية لا تكتفي باستدراج القوى الاستعمارية للمنطقة لأهدافها الخاصة، بل أيضاً تثير شهية التطرف باستقطاب الأفراد المتعصبين من كافة أصقاع العالم وتفريخ الجماعات المتطرفة وإيقاظ الخلايا النائمة وتفتق عقولها لممارسة أشد أنواع العنف، بل إن كثيراً من التائبين من الإرهاب قد يمموا نحو داعش.
ذكر مؤخراً الشيخ عبدالله السويلم عضو لجنة المناصحة في تصريح لصحيفة الوطن، أربعة عوامل تعيد شباب المناصحة إلى الإرهاب، وهي: عدم إقامة حد الحرابة عليهم، اتباعهم أهواءهم، تأصل الإجرام فيهم، عدم الاستجابة للنصح. باستثناء العامل الأول (الرادع المادي)، فإن بقية العوامل عقلية؛ وتعود بنا إلى ما ذكره بن نبي عن الأسباب العقلية (الفكرية) للتخلف..
أياً كانت الأسباب: نفسية، عقلية، اجتماعية، سياسية، فإن الحالة الداعشية تقوم بأذى واسع بمجمل المنطقة العربية سواء من ناحية التدمير المباشر أو من ناحية استقطاب القوى الأجنبية التي تأتي بثمن باهظ علينا.. أو من ناحية تحفيز العقول المريضة في الداخل.
الرهان على الوعي الجديد الذي يمكن أن تفرزه وطأة هذا المرض كمناعة مضادة له.. عبر مواجهة التطرف الفكري بالعقلانية الموضوعية وليس بتطرف عاطفي مضاد.. نحن بحاجة فكرية لإصلاح العقول بنفس حاجتنا الأمنية لمكافحة التنظيمات المتطرفة.. إنها المهمة الأصعب، فداعش كتنظيم سيسقط، لكن ماذا عن الحالة الداعشية في العقول!؟