د. راشد سعد الباز
الحمدلله على قضاء الله وقدره، وكما قال سبحانه وتعالى «أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ» ويقول تعالى «لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ». وقال الرسول عليه الصلاة والسلام «لا يغني حذر من قدر». أسال الله أن يغفر للمتوفين في حادثة منى ويتقبلهم من الشهداء وأن يشفي المصابين ويرجعهم إلى بلادهم معافين.
إنّ حوادث الحشود أصبحت تحتل اهتماما عالميا كبيرا بالدراسة والتحليل نظراً للزيادة السكانية في المجتمعات الحضرية وما يسفر عنه من زيادة بشرية في التجمعات مثل عند حضور المناسبات المختلفة، وما ينتج عنه من تكتل للحشود. ومن مظاهر الاهتمام قيام المعهد الفدرالي السويسري للتقنية بزيورخ Swiss Federal Institute of Technology Zurich ، بعقد ورشة عمل دولية في 2008 بعنوان:
Complex Systems Society: International Workshop on Challenges and Visions in the Social Sciences
تناولت الندوة الحشود والسلوك والتفاعل الاجتماعي للأفراد، وقد شاركت في هذه الورشة العلمية وكان من بين الأبحاث العلمية بحث للبرفسور ديرك هلبنج Dirk Helbing، الأستاذ في المعهد السويسري للتقنية ورئيس كرسي النمذجة والتحفيز بالمعهد والمتخصص في حركة الحشود بعنوان Emergence of cooperation by social interactions in space and time .
وقد استعرض البرفسور ديرك بعض حوادث التدافع في بعض الدول ومنها حوادث التدافع في موسم الحج حيث أشار إلى أنه في مناسبة كبيرة مثل الحج حيث ما يقرب من ثلاثة مليون حاج يؤدون شعائر الحج في مكان محدد ووقت محدد، ومع هذه الحشود الكبيرة فإن احتمالية وقوع مشكلة التدافع كبيرة؛ فتوقف مسيرة الحشود ولو لفترة بسيطة يؤدي إلى تجمع كتل بشرية، أو بمعنى آخر كثافة بشرية في حيز محدد بحيث يمكن أن تصل الكثافة البشرية إلى وجود عشرة أفراد في مساحة متر مربع واحد وهذا يمثل خطورة، وبالتالي تؤدي إلى حدوث التدافع وما ينجم عنه من كارثة، فضغط الحشود يؤدي إلى اضطراب الحركة وافتقاد الأفراد السيطرة على أنفسهم وبالتالي تتقاذفهم الحشود في أي اتجاه ويحدث التدافع والتساقط.
إنّ إدارة الحشود الكبيرة من الأمور الصعبة التي قد لا يتمكن القائمون عليها من ضبطها والتحكم فيها، ويشير الباحث المتخصص في علم الحشود في جامعة منشستر البريطانية، البروفسور كيث ستيل G. Keith Still is the Professor of Crowd Science at Manchester Metropolitan University (UK) إلى أنّ «قوة الزحام يمكن أن تصل إلى مستوى لا يمكن مواجهته والتحكم فيه»
وحوادث التدافع يمكن أن تحدث بسبب بسيط فتوقف عدد بسيط من الأفراد داخل الحشد أو السعي للخروج من الحشد بطريقة غير انسيابية يمكن أن تؤدي إلى كارثة، ويؤكد البرفسور كيث ستيل إلى أنّ حوادث التدافع والتساقط في الحشود لا تتطلب إلا تعثر شخص أو شخصين لينتج عنها كوارث وخيمة.
وقد استعرض البرفسور ستيل في مقالة علمية بعنوان «كوارث الحشود» « «Crowd disasters العديد من حوادث التدافع في العالم منذ 1902م حتى عام 2014م وكان من ضمنها التدافع في الجمرات ومنى ويؤكد البرفسور بموضوعية العالم بأنّ التدافع وتساقط الحشود في حوادث منى والجمرات ناجم عن العدد الهائل من الحجيج وسلوكيات بعض الحجاج.
وسأذكر تحليل البرفسور ستيل لأحدى حوادث التدافع التي وقعت في المشاعر وبالتحديد في حج عام 1426هـ(2006) ، ويمكن لمن أراد الاستزادة الرجوع إلى أبحاث البرفسور ستيل وبعضها منشور في موقعه على الويب سايت، فيشير ستيل إلى حادثة التدافع في الطريق إلى الجمرات «حيث خرج أكثر من مليون حاج ظهراً إلى رمي الجمرات ومعهم أمتعتهم الكبيرة بالرغم من تحذير السلطات الرسمية من اصطحاب الأمتعة، وقد عملت قوات الأمن إلى منع الحجيج من اصطحاب الأمتعة لكن كان من الصعب عليها مع هذا العدد الكبير الضبط والتحكم في جميع الحجاج. كما كان هناك تعليمات من السلطات الرسمية عن طريق اللوحات الارشادية ومكبرات الصوت بالتوقف عن التقدم لتجنب الازدحام والتدافع ولكن هناك من الحجيج من لم يتقيد بالتعليمات ولم يتصور الخطر المحدق واندفع في التقدم في محاولة للإسراع في رمي الجمرات مما تسبب وخلال دقائق معدودة في حدوث الكارثة في تلك السنة».
ويشير ستيل أنّ جميع وفيات حوادث التدافع نتيجة احتباس التنفس الشديد أفقياً نتيجة تكدس الناس فوق بعضهم أو أفقياً نتيجة قوة الدفع والتساقط (الاختناق) وليس السحق تحت الأقدام.
ويبين ستيل كيف أن سلوكيات بعض الحجاج كانت تعيق عمليات الإسعاف وتسبب في زيادة الوفيات حيث يقول: « طوقت قوات الأمن المنطقة المعنية لنقل الجثث وإسعاف المصابين والحد من التدافع، لكنها كانت تواجه جموعاً من الحجيج الذين يريدون الدخول إلى المنطقة المطوقة بالرغم من خطورة الموقف». ومع ذلك يشير الدكتور إلى هذه الحادثة لم تعرقل شعيرة رمي الجمرات حيث مرت بعد ذلك بإنسيابية.
ويتضح من الإحصاءات في الجدول السابق أنّه كثير ما ينجم عن تجمع الحشود تدافع يؤدي إلى حوادث أليمة، وبالنظر إلى حوادث التدافع يتبين أن نسبة الوفيات إلى حجم الحشود في حادث التدافع في حج عام 1436هـ (2015) في منى هي الأقل مقارنة بالحوادث الأخرى، وقد تمت المقارنة مع الحوادث التي توفرت فيها بيانات عن حجم الحشود. بل لو نظرنا لعدد الوفيات في حادثة التجمع الشيعي في بغداد كمثال لوجدنا أنّ بالرغم من حجم الحشد لا يمكن أن يقارن بحجم الحشود في منى ومع ذلك يعج عدد الوفيات كبير.
ويجب أن نضع في الاعتبار أن حوادث التدافع في الدول الأخرى المبنية في الجدول حدثت في حشود لا يقارن حجمها بالحشود في المشاعر بالإضافة إلى أنّ تلك الحشود تتصف بأنها متجانسة homogenous من حيث الفئات العمرية فمعظمها من فئة عمرية متقاربة مثل الحشود الرياضية هي من فئة الشباب والأصحاء وبالتالي قدرتهم على النجاة كبيرة ، أيضا الحشود في تلك الدول متجانسة من حيث اللغة والثقافة والعادات والتقاليد والجنسية مما يسهل ضبط تلك الحشود والتعامل معها وتوجيها لكن في المقابل حشود الحجاج في المشاعر المقدسة تتصف بالتباين (بعدم التجانس) hetreogenous في عدد من الصفات مما يجعل إدارتها وضبطها وتوجيهها في غاية الصعوبة، ويمكن الإشارة إلى بعض تلك الصفات:
1 - الاختلاف في العمر فهناك الصغار والكبار والمسنين والأطفال وهناك من يعاني من أمراض أو ضعف جسمي أو إعاقات مما يؤثر على مسيرة الحشود، فتلك الفئات الضعيفة لا يستطيعون مسايرة الحشود مما يسبب عرقلة لمسيرة الحشود وحركة التفويج، كما أنّه عند حدوث مشكلة تعثر للمسيرة فقدرتهم على التصرف والهروب ضعيفة مما قد يتعرضون للدهس.
2 - اختلاف الثقافات والعادات للحجاج فبالرغم من كونهم مسلمين إلا أن هناك ثقافات فرعية مختلفة فبعض الحجاج يتمسك بثقافاته وعاداته التي قد تؤثر سلباً على مسيرة الحشود على سبيل المثال البعض يعتقد أنه لا يمكن أن تأكل أو تشرب وأنت تمشي فتجد أنه يجلس في ممرات مما يسبب عرقلة للحشود. أو التقيد بأداء بعض العبادات في أوقات محددة بالرغم من فتاوى علماء الدين بمشروعية أدائها في أوقات أخرى ما يتسبب في تكتل الحشود ومن ثم التدافع.
3 - اختلاف اللغات بل وتعدد اللهجات في اللغة الواحدة مما يُعيق من عملية التواصل مع الحجاج، وقد تفهم الرسائل الموجهة من السلطات الرسمية بشكل خاطئ.
4 - اختلاف الطوائف والمذاهب فبالرغم من أنّه يجمعهم الدين الإسلامي ألا أن هناك طوائف ومذاهب عدة مما يجعل هناك بعض التفسيرات المختلفة لبعض الأمور في الحج.
5 - وجود بعض المعتقدات فهناك من الحجاج من يتمنى أن يتوفاه الله في المشاعر المقدسة ليكون شهيداً. كما أنّ بعض الحجاج يأتي إلى الحج وهو مريض جداً رغبة في الوفاة أثناء تأديته فريضة الحج.
ولا بد من الإشارة إلى أن ما يحصل من تدافع للحشود في المشاعر المقدسة يمكن إرجاعه إلى عوامل عديدة أخرى منها تقصير بعثات الحج لبعض الدول في توعية حجاجها وتثقيفهم في الأمور المتعلقة بالنسك أو فيما يتعلق بتفادي الازدحام، وقد أكد ذلك الدكتور ستيل في أنّ سلوكيات بعض الحجاج تؤدي إلى تدافع الحشود مما يتطلب من بعثات الحج توعية حجاجها، كما أن على بعثات الحج أن تبين لحجاجها ضرورة التقيد بالتعليمات والالتزام بالضوابط التي تسنها السلطات الرسمية في المملكة والتي تهدف للحفاظ على سلامة الحجيج وأمنهم. حيث إن هناك من الحجاج من لا يتقيد بالأنظمة والتعليمات التي تسنها السلطات الرسمية في المملكة بل وفي بعض الأحيان يتغافلون رجال الأمن أو إظهار القوة لمخالفة الأنظمة، على سبيل المثال مخالفة التعليمات الرسمية بالجلوس على جانبي الطرق التي يرتادها الحجاج لإداء الشعائر مما يتسبب في عرقلة للحشود ويؤدي إلى التدافع؛ بل ومن المؤسف أنّ بعض الحجاج يستخدم القوة والعنف أثناء مسيرة الحشود مما يؤدي إلى حدوث التدافع والتساقط ويتأثر بذلك على وجه الخصوص الحجاج من كبار السن وضعاف البنية. كما أنّ معاناة بعض الحجيج من التعب والإعياء يؤدي إلى توقفهم أو جلوسهم مما يعرقل مسيرة الحشود ويؤدي إلى التدافع.
بالإضافة إلى أنّ عدم تقيد بعض حملات الحج بالتعليمات في التفويج أو في بعض الأمور المتصلة بالحجيج يمكن أن يؤدي إلى الازدحام والتدافع. كذلك افتقاد تعاون بعض حملات الحج في التعامل مع حالات الطوارئ كالتدافع مما يُفاقم من الكوارث الناتجة.
تدافع الحشود المفتعل
قد يكون تدافع الحشود مدبراً ومخططاً له لعرقلة الحشود وإحداث بلبلة وإحراج الدولة المستضيفة أو استغلاله سياسياً من قبل بعض الدول، وتستخدم بعض الأساليب لإحداث التدافع مثل:
1 -قيام مجموعة من الأفراد من داخل الحشود بالتوقف ويؤدي ذلك إلى ما يُعرف بضغط الحشود وينتج عنه تدافع الحشود.
2 -قيام مجموعة من داخل الحشود بالسير عكس مسيرة الحشود، وبالتالي يكون هناك تصادم بين مجموعتين ويحصل التدافع.
3 -افتعال حوادث داخل الحشود مما يُسبب ارتباكا ويؤدي إلى التدافع.
4 -ترويج إشاعات داخل الحشود مثل وجود حريق أو قنبلة أو غير ذلك، وبالتالي يحدث بلبلة وفوضى داخل الحشود، فالبعض يريد أن يستمر في المسيرة والبعض يريد أن يرجع وهذا يحدث التدافع.
5-قيام مجموعة من خارج الحشود بالسير في اتجاه معاكس للحشود وهذا يؤدي إلى التصادم وتدافع الحشود.
ومع كل هذا التوضيح فالحج يعد موسما عظيما ومناسبة كبيرة والحكومة السعودية تبذل الغالي والنفيس في جعله ميسراً للحجيج ولا أصدق من ذلك المليارات التي أنفقت وتنفق على الحرمين الشريفين والمشاعر على مدى عقود من الزمن، كما أنّه وفي فترة الحج تتركز كل أجهزة الدولة جهودها وخدماتها في موسم الحج بل يلاحظ المراجعون للمؤسسات الحكومية خارج مكة أنّها لا تعمل بكامل طاقتها نتيجة لانتداب كثير من الموظفين إلى مكة والمشاعر لتيسير أعمال الحج والحفاظ على أمن الحجيج، وما يعنيه ذلك من عبء مالي كبير على الدولة.
والدولة السعودية تقوم بجهودها لخدمة الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة والمعتمرين والحجاج من غير كلل ولا ملل، ولا تعمل على استغلال وجود الأماكن المقدسة في المملكة أو مواسم الحج لترويج مذهب أو فكر أو استغلال سياسي أو اقتصادي.
وأكرر ما قاله الدكتور ستيل عن جهود المملكة في مواسم الحج بأنّ «السلطات السعودية تقوم بعمل جبار».
ولولا فضل الله ولطفه ثم تدخل السلطات السعودية الرسمية ربما تكون الوفيات والإصابات في موسم حج هذا العام أضعافا مضاعفة.
وأستشهد بما قاله البرفسور ستيل لحادثة الحج في عام 1426هـ (2006م) «أنّ التدخل السريع للسلطات الأمنية أسهم في خفض أعداد الوفيات». «The quick intervention of security forces helped bring down the death toll».
ومهما بذلت من جهود كبيرة فمع العدد الهائل من الحجاج يمكن أن يحدث بعض الإشكاليات خارج الحسبان، وفي هذا السياق يشير البرفسور ستيل إلى أنّه علينا دراسة حوادث التدافع في مواسم الحج بعمق لندرك أن حوالي 2500000 حاج يستخدمون أماكن محددة في أوقات محددة يتضح أنّ «السلطات السعودية تقوم بعمل جبار» «You have to study in depth, these types of events to realise that 2,500,000 million pilgrims passing through a complex space the Saudi authorities are doing a phenomenal job»..
وهذا يتطلب التقويم المستمر لأعمال الحج والوقوف على الصعوبات التي يمكن أن تؤثر في موسم الحج، كما يتطلب التنسيق العالي بين الأجهزة المعنية وتحديد المسئوليات لكل جهاز والجزاءات عند الخلل في القيام بالمسئوليات، وإيجاد مخارج كافية في المشاعر عند حالات الطوارئ، والعناية الخاصة بنقاط التداخل بين الطرقات لانسيابية الحركة عند التقاء مسيرات الحشود. كما يتطلب تعاون حملات الحج عند حدوث الطوارئ مثل استقبال أفراد من الحجاج لتخفيف اندفاع الحشود واستخدام المخيمات كمخارج، وهذا يتطلب سن القوانين التي تجازي الحملات غير المتعاونة.