الحمد لله الذي ينزل المطر من الغمام ويخرج الثمر من الأكمام والصلاة والسلام على رسول الإسلام محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه الأئمة الكرام والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
من خصائص سورة يوسف أنها تحدثت عن صورة من صور حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة وبعد البعثة لترى أن القصص القرآني لا يكاد يغادر صغيرة ولا كبيرة في حياة الأنبياء في تحمل مشاق الدعوة والنهوض بها.
ومهما كانت الرياح عاتية فعليهم أن يوقدوا مشعلاً لا ينطفئ نوره ليكون للناس مناراً للهداية وفناراً للمرسى الآمن، ولقد سجن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شعب أبي طالب وحوصر ثم بعد المحنة خرج للناس نور يبتلج ضياؤه في لياليهم الظلماء يهتدي به من اهتدى ويعرض عنه من أعرض، ولئن عاش يوسف -عليه السلام- من قبل قصص الحسد والبغضاء والمؤامرات وأحاطت به أمور عظيمة فلم تخل حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أموركذلك فالاتهامات للأشراف والأطهار من خلق الله ديدن الظالمين، ومقابلة الإساءات بالصبر والحلم خلق الأنبياء والمرسلين.
وهكذا نسجت سورة يوسف صوراً من حياته -عليه السلام- هي أيضاً صور من حياة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- على تباعد الأزمان بينهما، ثم قال تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} ولأن العرب كانوا لا يكتبون في مطلع حياتهم وإنما يحفظون على ما هو ديدنهم فقد أضاف الله لهم كرامة أخرى إلى جانب حفظهم فأصبح الكتاب الذي بينهم كتاب يكتب فأضاف إلى كرامة الحفظ عندهم كرامة الكتابة ولم تجتمع هذه الخصلة لأحد قبل العرب، والمقصود بالعرب: أهل ملّة الإسلام، فأهل الأديان الأخرى: كتبهم غير محفوظة، إذا فهذا كتاب الله وهداية صدورهم وشرف لهم وتشريف لمكانتهم وقدرهم.
ولئن فات الحفظ بعض الناس فهو مكتوب لا يختلف عليه أحد ومحفوظ بصدور من وفقهم الله لذلك، والعناية بالمكرمات الإلهية أمر مفروض في مقابلة النعم، ولئن كانت هذه الخصائص تحكى مقروءاً مكتوبا فهو مع ذلك محفوظ، ولا يُعْطى أحدٌ زينةً لكي تبقى في مخزنه، وإنما يُفْتَرض عليه أن يتزين بها!
وواجب المسلمين أن يتزيّنوا بهذه الزينة الفريدة، وأن يظهروا مزاياها ومنافعها، وأن يفتخروا بهذا، والإشارة بـ(تلك) فيها معنى التعظيم الحاث على النظر الدّقيق وذكر الآيات للنظر في تعددها.
والإبانة: هي الوسيلة التي يحتاجها كل أحد، وإذا كان الطريق أمامك بَيِّن لا تشعب فيه فإنه طريق الأمان. ثم يردف لك بقوله -عز وجل-: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وهذه الآية إذ نصّت على شرف الأمة بالتصريح بنزول القرآن بلغتها، وإن لم يكن فيها تصريح بأنه نزل لها؛ وذلك لانتشار الظلام في كافة أصقاع الأرض، إما بالجهل والشرك والكفر، أو بالكذب والنفاق والادعاء على الله، أو التحدث على لسان الوحي بالأكاذيب التي ما أنزلها الله!
وجاء الوقت لكي يكون الشرف إلى قيام الساعة لهذه الأمة العربية، فتكون لغتها هي ذروة اللغات جميعا وكتابها الأصدق والأمضى والأنصع بحقائقه وأنواره بينما هو موجود في أيدي الناس ولأول مرة حينما ينزل كتاب من السماء يأتي معه ضمانه بما صرح به القرآن بقوله: (لا يأتيه الباطل ) وقد سبقت الكتب من السماء وليس معها هذا الضمان فكانت عرضة لأيدي العابثين ومكر الماكرين فحرفوا الكلم عن مواضعه وزيفوا خصائصه وقدموا للناس صورة مشوهة ليس فيها أدنى درجات الاحتياط في الكذب فجاءت واضحة التزييف لكل من يعقل أو ألقى السمع وهو شهيد!
ثم نزل القرآن وأعلن عن نفسه بأن نزوله نزول شرف عظيم من السماء إلى السماء الدنيا، ثم منبهاً على الأحداث والقضايا ليكون عزاء في كل مصيبة وطريقاً آمناً لكل سالك وهدايةً عامةً لكل متبع وحقيقةً واضحةً لكل مريد ونوراً ينبلج ضياؤه، ويدفع الحيرة عن السالكين، ويطمئن قلوب الفالحين، ويصل كل طالب لحبل الله المتين. وهكذا بدأت قصة الكون مع النور المبين ولكي يبقى إلى أمد الدهر ويكون رفيقاً في الجنة، فكان لابد أن يكون بالصفات التي تعلو على ألسنة الأدباء وبالحلاوة التي لا يشبع منها العلماء وباليسر الذي لا يشق على عقول البسطاء.
لذا استنهض العقول لحفظه وفهمه وإدراك معانيه وأسراره فجاءت كلمة (لعل) وكأنها جوهرة لها جاذبية قولية للعقول فإذا أمسكت المصحف بين يديك أيها المؤمن فلا تنظر إليه على أنه ورقات فيها كلام وإنما هو نور من كلام الله.
وتذكر قبل أن تفتح المصحف أن الله تكلم به وأن الذي بين يديك هو صفة لله تبارك وتعالى فقد تكلم به وهو صفة له جل شأنه.
ثم افتح هذا الكتاب العظيم وتأمّل في معانيه ستجدها جديدة كما نزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكما رآها أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان في كل العصور نوراً يهدي به الله من يشاء من عباده ولا إخالك يا أُخَيّ بعد هذا إلا جاعلاً من نفسك واحدً من منظومة الكرماء عبر الدهر الذين أمسكوا بهذا الكتاب الذي قرؤوه وتأملوه ففازوا بسعادة عاجلة وآجلة.
الشيخ إبراهيم الأخضر بن علي القيم - شيخ القراء بالمسجد النبوي