أ. د.عثمان بن صالح العامر
كنت على طيران نسما متجها من القاهرة إلى حائل وقريباً مني يجلس المحرر الصحفي المخضرم والصديق العزيز والكاتب القدير يوسف عبد الله العيناء» أبو عبد الله «، قرئ دعاء السفر قبيل الإقلاع، وإذ به يلتفت إليّ بعد أن انتهى الدعاء متحدثاً عن البدايات لهذه السنَّة الحسنة ذاكراً أنه قبل أكثر من خمسة وثلاثين عاماً تقريباً كان على متن رحلة السعودية المتجهة من الرياض إلى حائل، وإذ بكابتن الطائرة يشنف آذان الركاب بدعاء السفر من كابينة الطائرة قبل الإقلاع.
يقول أبو عبد الله: عندما أقلعت الطائرة واستقر وضعها في الجو توجهت إلى الكابتن بعد أن عرّفت نفسي للمضيف ذاكراً له الجريدة التي أحرر فيها « عكاظ» ومفصحاً له عن رغبتي في مقابلة الكابتن الجوفي.
دخلت غرفة القيادة وجلست أتحدث إلى هذا الرجل الذي بادر مشكوراً - كما يقول هو عن نفسه - وباجتهاد شخصي بقراءة الدعاء في رحلاته الداخلية والخارجية، وروى للعيناء في ثنايا حديثه هذا كيف كانت أول مرة أطلق فيها هذه المبادرة الرائدة والرائعة، ونُشر كل ما قال الجوفي بجريدة عكاظ في حينه.
أكد عندي هذه المعلومة - مع ثقتي المطلقة بما ذكر لي العيناء - الأستاذ سليمان الصالح في تغريدته بتويتر والتي جاء فيها ما نصه: (الكابتن عبد الله مقبل الجوفي أول من قرأ دعاء السفر بالطائرة، على طائرة السعودية بوينج 737 في بداية الثمانينيات الميلادية).
يقول العيناء: نُشر اللقاء وعلق على الموضوع الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله- في إحدى حلقاته التلفزيونية، الأمر الذي دفع الخطوط الجوية السعودية إلى تبني هذه الفكرة وتعميمها وهي الآن تنتقل إلى عدد من شركات الطيران.
شخصياً ومن باب الشيء بالشيء يذكر، كنت ضمن وفد رسمي متجهاً من مطار العاصمة الألمانية صوب فنلندا على متن الخطوط الألمانية وكان عددنا عشرة، وقبيل الإقلاع رحب بنا أحد المضيفين بلغة عربية مكسرة ودعا دعاء السفر احتفاء واحتراماً وتقليداً ومحاكاة.
لقد سنَّ الجوفي - أمده الله بالصحة والسعادة والهناء إن كان حياً ورحمه وأسكنه فسيح جناته إن كان انتقل إلى الرفيق الأعلى- هذه السُّنة الحسنة فصار له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، وهكذا كل منا باستطاعته أن يبادر ويقدم شيئاً – ولو يسيرا - يُكتب له الأجر وهو ميت جراء الاقتداء والمتابعة.
لقد شجع ديننا الذي نشرف بالانتماء له المبادرات، وعزز لدى الاتِّباع الخروج من عباءة التقليد والمحاكاة فيما هو في دائرة الوسائل والأساليب، ومنح العقل الحرية المطلقة ليبدع في هذا الباب المُشرَع فيما لا يتعارض مع النص الشرعي القطعي الثبوت القطعي الدلالة، الأمر الذي يجعلنا نتمتع بمساحة من الحرية في وضع بصمة لنا في دنيا الناس، ولا يضر الواحد منا ألا يعرف أحداً من بني البشر أنه هو أول من بادر وفعل هذا أو قاله أو كتبه إن كان الله يعرفه.
إن الإسلام ليس دين الجمود والسكون والتقوقع بل دين الانفتاح والتفكر والتفكير الذي يولد معه القدرة على تحقيق رسالة بني الإنسان في الحياة الدنيا، المتمثلة في عبادة الله وعمارة الأرض، وما نعيشه من تخلف ورجعية في باب الابتكارات والاختراعات ليس سببه الدين كما يطلق البعض، بل مرجع ذلك وعلته نحن الذين قصرنا في سبر أغوار الآفاق وعجزنا عن طرق باب المبادرات، ورضينا بالتبعية والتقليد والمحاكاة والاستهلاك المفرط لما يتوصل له الغرب جراء ما يعرف بسياسة الإغراق.
شكراْ للكابتن عبد الله الجوفي وللشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - وللأخ العزيز يوسف العيناء وللكابتن سليمان الصالح الذي ذكرنا بما فعله هذا الرجل، وللخطوط الجوية السعودية على تبني هذه المبادرة، والشكر موصول لكل من يعشق المبادرات ويطرق بابها في أي مجال كانت خارج نطاق المنصوص عليه والابتداع في الدين، وإلى لقاء والسلام.