د. حمزة السالم
تُلقي رئيسة هيئة السوق المالية الأمريكية، أكثر من عشرين كلمة سنوياً، ثُلثها شهادات أمام الكونجرس، وثُلثاها محاضرات في الجامعات والمدارس والمعاهد الأمريكية. شهادات مواضيعها مثل: «دراسة الرقابة على المصارف وإدارة المخاطر في ضوء فقدان تجارة جي بي مورغان»، ومحاضرات علمية مثل: «مفهوم فقدان الأهلية وما يُستثنى وما يُعفى، بموجب القوانين الاتحادية للأوراق المالية».. وبعد الكلمة تستقبل الأسئلة والتحديات، وتجيب عليها..
والأعضاء الأربعة لمجلس هيئة سوق المال الأمريكية، على نفس الغرار.. فهم يلقون ما يُقارب خمسين محاضرة علمية سنوية تشرح أموراً متعلقة بحوادث جارية.. كلها موجودة على موقع الهيئة.. بالإضافة للقاءات الصحفية والتصريحات الرسمية.. مع روابط ببث حي لاجتماعات مجلس الهيئة وغيرها، سواء تعلّق بالقرارات العامة أو الخاصة، وروابط لأرشيف مُفهرس لها لسنوات مضت.. فيستطيع أي شخص أن يرجع فيشاهد اجتماع الهيئة قبل خمس سنوات ليُراجع موضوع ما.
فلا عجب أن يثق بها العالم جميعه، رغم أنها هي مساهم رئيس في إيقاع العالم في فخ الأدوات المالية الأمريكية.
فماذا عنا نحن.. عن هيئتنا؟.. مَنْ يعلم أنه يوجد عندنا أصلاً أعضاء أربعة، يُشكِّلون مع رئيس الهيئة ما يُسمى بمجلس هيئة سوق المال.. ويعلم أن هذا المجلس الخماسي هو نظاماً، مَنْ يدير الهيئة ويصدر قراراتها.. وهل تجد عنها خبراً واحداً في جرائدنا، إلا خبر تعيين الأعضاء.
وهل سبق لمواطن سعودي أن سمع رئيساً للهيئة قط منذ تأسيسها، يتحدث عن أي موضوع يتعلق بالسوق قد ضجت به المجالس السعودية كسهم طاش أو سوق انهار أو اقتصاد تحوَّل أو نظام تغيَّر، فيشرح للناس أسباب القرارات التي أفلست مواطناً وأغنت آخر، وأقفلت شركة وطرحت أخرى باكتتابات على المكشوف، أو بأسعار أعلى من قيمتها..
وهذا ليس خاصاً بسوق المال، بل بجميع الجهات الحكومية التي لها علاقة مباشرة بالمواطن.. فعلى سبيل المثال لا الحصر، هيئة الاتصالات وهيئة الكهرباء ووزارة النقل، والإسكان والبلديات، وإلى آخره.. وقد استخدمت الهيئة نظراً لاهتمام الناس بالأسهم وتعمُّق عواطفهم في موضوعها.
لذا فسؤال المقال هو: هل سبق لأي مسئول قط، حمله ولي الأمر مسئولية مُناطة بقرارات تتعلق مباشرة بالمواطن، ثم خرج للناس يشرح لهم حيثيات قرار ما، ويبيّن لهم الأرضية العلمية والتجربة التطبيقية من مشروع ما، ثم يفتح لهم الباب للنقاش فيتعرض لأسئلتهم وتحدياتهم، فيُفنّد الأساطير والإشاعات تفنيداً علمياً منطقياً، ويزرع ثقة الناس فيه بإظهاره لكفاءته العلمية ومقدرته الوظيفية للمنصب الذي يشغله؟.. الأمن والدفاع التي كأنها شبحٌ في أمريكا، لا تصل أي وزارة إلى ما وصلت إليه من شفافية.. فأطيب مسئولينا، من يتواصل مع الشارع تواصلاً سطحياً، ويتفضّل عليه ببعض إخبارات القرارات لا مسبباتها وخيارات بدائلها.
فلهذا، أصبح نشر الأساطير والإرجاف في الشارع السعودي - وأنا من الشارع - أسهل من خداع صبي صغير. وأصبح طبيعياً أن يتذمَّر الشارع السعودي عند ارتفاع الاحتياطيات الأجنبية ويتذمَّر عند انخفاضها.. ويتذمَّر عند الإنفاق وعند عدم الإنفاق.
والاستخفاف بهذه التذمرات لكونها خاطئة أو ساذجة ومتناقضة، خطأ كبير.. فهي ليست كذلك عند المُتذمر، وحتى لو كان المتذمر مقلِّداً، أو بانَ له بعد ذلك خطأه في تذمُّره، فإن الأثر النفسي للتذمر لا يزول، وإن زال السبب.. بل يبقى أثرها مشحوناً في النفس فيصير لبنة تُضاف لأخرى.. فبنَت جداراً مانعاً لفهم سياسات الحكومة أو تصديقها.. ثم يجد المواطن، وأنا مواطن، في أحاديث المغرضين والمتآمرين، تبريرات ومقدمات وشواهد فلا يميّز خطأ منطقيتها وضياع شاهدها لأنه لم يسمع غيرها.. ولهذا نرى كثيراً من السطحية والسذاجة في كثير من كتاباتنا الصحفية - وبن سالم ممن يكتب -، وفي أحاديث مثقفينا ومسئولينا، وفي طروحات دكاترة الجامعات، وأنا منهم.
فالمجتمع السعودي ليس له مصدر معلوماتي إلا أحاديث الجُهّال وإشاعات الأفّاقين ودسائس المغرضين.. فحتى من كان عنده بقية علم، تزول ثم تنقلب جهلاً.
والاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بفروعه الاثني عشر يتنافسون في فنون التواصل مع المواطن، يوضحون ويشرحون في كل موقع تعليمي أو سوقي أو بحثي أو إعلامي، فيبينون الأصول العلمية للقرارات، والخيارات والتوقعات وأسباب الترجيح.. وذلك لأجل زرع الثقة في القرار، وبالتالي الحرص على الالتزام به، وزرع الثقة في مقدرة مسئولي البنك العلمية والتجريبية.
فلا عجب أن يهرب العالم للدولار والفيدرالي يضخ أضعافاً مُضاعفة منه.
وقد أكثر برناكي من التواصل مع الشارع الأمريكي، وهو الذي قاد الاحتياطي الفيدرالي في مرحلة صعبة، فهندسَ خطة الإنقاذ من الأزمة المالية لبلاده وغيرها.. فلما رُوجع في ذلك، مع وجوب السرية في عمل البنوك المركزية, قال شارحاً أسبابه في كلمة له: «كموظف خادم للعامة فيما يختص بالقرارات التي تؤثر على حياة كل مواطن، فإن محافظي البنوك المركزية لديهم مسؤولية لتزويد الجمهور بجميع التفسيرات اللازمة للقرارات المتخذة لهم، طالما أن فعْل ذلك لا يُؤثر على سير عملية صُنع القرار نفسه».. وقال فيما قال: (التواصل مع العامة يُعين على التّنبؤ المستقبلي بسبب فهم الناس للسياسات النقدية والمالية.. كما يُسبب فهم المسئول لهم، فلا يُخطئ في توقعاته.. كما يساعد المسئول لفهم الأمور المتعلقة بالقرارات وخلفيات أصولها العلمية.. ثم قال: فالتواصل يُعلّم المسئول، كما يتعلَّم الأستاذ من التدريس).
وصدقَ، فو الله ما فهمت شيئاً من الطلاسم التي كنا ندرسها في الدكتوراه، إلا بمتابعتي لشهادات قرين سبان أمام الكونجرس وكلماته التي يلقيها هنا وهناك، وذلك بعد نصيحة أستاذ لي، شكوت له استحالة فهمي لطلاسم الكورسات واستحالة نجاحي.
فهل يُلام المجتمع الاقتصادي - وأنا منهم - على ضيعته العلمية، وهل يُلام الشارع السعودي - وأنا منهم - على تقبلنا للإشاعات وبساطة التفكير وسذاجة الرأي.
لقد ولّى زمان النصيحة بالتشبُّث بغطاء الصمت، ففي عصر التواصل الافتراضي، مَن صمتَ أو تكلمَ بنتائج دون إثبات ونفي، فقد أعطى الحجة لمن تكلم.. فمتى ندرك أن تجهيل المجتمع ما عاد يخدم أي مصلحة وطنية.