سترة المصلي
* نرجو منكم -حفظكم الله- بيان المسافة التي تكون بين المصلي وسترته، ومقدار ارتفاع السترة؛ لأنني أرى بعض الإخوة يكتفي بوضع ما تيسر أمامه، كأن يعرض حامل المصاحف، أو يوقف المناديل طولاً، وما هو حكم السترة؟
- أولاً السترة جاء الأمر بها، ولذا قال بعض العلماء بوجوبها كما هو رأي الظاهرية وينصره بعض المعاصرين، وعامة أهل العلم على أنّها مستحبة.
والمسافة التي تكون بين المصلي وسترته ينبغي ألا تزيد على ما يحتاجه في حال السجود، وإن قال بعض أهل العلم: إن أكثر ما يمكن أن يكون بين المصلي وسترته ثلاثة أذرع، والنبي -عليه الصلاة والسلام- دنا من سترته لمّا أرادت بَهْمةٌ أن تَمُرَ بين يديه حتى ألصق بطنه بالجدار [أبو داود: 708]، وجاء الأمر بالدنو من السترة [أبو داود: 695]، وهذا لا شك أنه أحفظ لصلاته بحيث لا يتمكن من أراد أن يمر، وأما ارتفاع السترة فيقدره أهل العلم بثلثي ذراع، بمؤخرة الرحل [مسلم: 499].
وأما إذا وضع ما يدل على السترة مثل ما ذكر في السؤال (حامل المصاحف أو المناديل) أو ما أشبه ذلك فإنه يكفي، ومن يثبت حديث الخط «فإن لم يكن معه عصاً فليَخطُطْ خطَّاً» [أبو داود: 689] قال: يكتفي بأي شيء يدل على ذلك ولو طرف السجادة أو طرف الفرش الذي يصلي عليه فيكفي؛ لأنه في حكم الخط، لكن حديث الخط فيه كلام طويل لأهل العلم، والذي رجحه ابن الصلاح وجمع من أهل العلم أنه مضطرب، وإن قال ابن حجر: لم يصب من زعم أنه مضطرب؛ لأنه تمكن من ترجيح بعض الروايات على بعض، فانتفى عنه الاضطراب وحكم عليه بالحُسْن. وعلى كل حال القول بأن طرف السجادة وما أشبهها يكفي هذا مبني على ثبوت حديث الخط، فإذا قلنا بثبوته كما قال ابن حجر وانتفى عنه الاضطراب وثبت له الحسْن، فإن ذلك يكفي.
والإمام باعتباره سترة لمن خلفه أو سترته سترة لمن خلفه ينبغي أن يعتني بالسترة؛ لأن صلاة المأمومين مرتبطة بصلاته، فعليه أن يعنى بها، ثم بعد ذلك لا يضرُّ من مر بين يدي المأمومين، كما مر ابن عباس -رضي الله عنهما- بين يدي الصف على حمار أتان فما تأثرت صلاة من مر بين أيديهم [البخاري: 493]؛ لأن الإمام سترة لمن خلفه، أو سترته سترة لمن خلفه على المعروف عند أهل العلم من الخلاف في ذلك، فالإمام شأنه آكد؛ لأنه تتعلق به صلاة غيره، وكذلك المنفرد أيضًا عليه أن يمتثل الأمر بالاستتار وإن لم يكن على سبيل الوجوب واللزوم، وأما بالنسبة للمأموم فمثل ما ذكرنا عن أهل العلم أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، وأما الذي يقضي الصلاة فحكمه حكم المنفرد؛ لأنه إذا نوى الانفصال والانفراد بسلام الإمام فإن حكمه حكم المنفرد، فيعتني بسترته كما يعتني بها المنفرد.
ومن رأى الإمام ليس له سترة وهو عرضة لأن يمر الناس بين يديه -خاصة إمام الجماعة الثانية- فوضع للإمام ما يستره، فهذا لا شك أنه من التعاون على البر والتقوى، وفاعله مأجور إن شاء الله تعالى.
الاستفادة من العلماء المتقدمين
* ما الطريقة المثلى للاستفادة من المتقدمين من أهل العلم في شتى الفنون والعلوم؟ وهل هم الأصل في التتلمذ والتعلم؟
- نعم، الأقدمون هم الأصل في كل فن، لكن بالنسبة لطالب علم متمكن يستطيع أن يستفيد من كلامهم، أما بالنسبة لطالب علم لا يفهم أقوالهم ولا اصطلاحاتهم فمثل هذا لا بد أن يتدرج في الفنون على الجادة التي رسمها أهل العلم في طريقتهم في تأليف المختصرات والمتون، فإذا لزم الجادة وترقّى وتدرّج في أي فن من الفنون فإنه يترك كتب المتأخرين، وتكون عنايته بكتب المتقدمين؛ لأنهم الأصل. وقد أُثير قبل نصف قرن أو أكثر عدم الاهتمام بكتب المتأخرين، فبدؤوا بكتب البلاغة ونعوا على من يعتني بكتب القزويني مثل (التلخيص)؛ لأن الناس فتنوا به، وكُتِب عليه الشروح الكثيرة والحواشي المطولة، واعتنى به الناس قراءة وإقراءً، وقرروه في دروسهم، وصار عمدة في الباب، فجاء من يقلل من شأن هذا المتن ويُلزم بالاهتمام بكلام المتقدمين في هذا الباب كما في كتب عبد القاهر الجرجاني، وما كتبه المتقدمون من العناية بكتب الأدباء المتقدمين كالجاحظ وغيره، لكن الطالب المبتدئ ماذا يدرك من كتب المتقدمين في كلام عام سائب، نعم، عليه أن يؤسس على طريقة أهل العلم في المتون التي تبين له التصور الدقيق لهذا العلم في جملته وفي أبوابه، فلا بد أن يكون لدى طالب العلم تصوّر دقيق للعلم على طريقة المتون، ثم بعد ذلك إذا تأهل للنظر في كتب المتقدمين واستطاع أن يحاكيهم في أساليبهم تعيَّن عليه ذلك. ثم بعد ذلك جاءت الدعوة إلى نبذ أقوال الفقهاء وكتب الفقه إلى التفقه من الكتاب والسنة، والرمي بمثل هذا الكلام في أوساط المبتدئين، ولا يمكن أن يقال لطالب مبتدئ: تفقه من الكتاب والسنة، وهو لا يستطيع أن يتعامل مع نصوص الكتاب والسنة، ولا يعرف كيف يجمع بين المختلف، ولا يستطيع أن يوفق بين الأحاديث والآيات أو الآيات مع الأحاديث إذا حصل بينها نوع تعارض في الظاهر، ولا يعرف الناسخ من المنسوخ، ولا الخاص من العام، ولا المطلق من المقيد، كيف يتعامل مع النصوص؟! هذا عليه أن يبدأ التعلم في هذا الفن على طريقة أهل العلم في متن من المتون المعتبرة في بلده، ثم بعد ذلك يعتني بالدليل، ويعتني بمسائل الكتاب ويستدل لها، وينظر من وافق ومن خالف مع دليل الموافق والمخالف، ثم بعد ذلك يتأهل للاجتهاد، ثم يتفقه من الكتاب والسنة، ويحسن توجيه هذا الكلام له، بل يتعين عليه أن يتفقه من الكتاب والسنة ولا يجوز له أن يقلِّد إذا تأهل للاجتهاد. ثم جاءت الدعوة إلى نبذ كلام المتأخرين في علوم الحديث والاهتمم بكلام المتقدمين، وهذه لا شك أنها دعوة لها حظ من النظر، والقائمون عليها مثل من قام على الدعوات السابقة في الفقه والبلاغة لا يُظَن بهم إلا كل خير، لكن الكلام فيمن يُلقى إليه مثل هذا الكلام، إذا أراد أن يتعامل مع أقوال المتقدمين في علوم الحديث -مثلاً- مَن يقلد من المتقدمين وهو ليست لديه أهلية وليست لديه ملكة يستطيع من خلالها أن يميِّز بين أقوال المتقدمين ما الراجح وما المرجوح منها؟ وكيف يستطيع أن يرجِّح بالقرائن كما كانوا يصنعون؟ والله المستعان.
- يجيب عنها - معالي الشيخ عبدالكريم بن عبدالله الخضير - عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء