مفارقة ">
بقبس متقد في نبضه، قذف العصا القصيرة اليابسة المهذبة، بعصا مثلها إلا أنها أطول بثلاث مرات.. وانتصب يَبْري أمله، وسط دائرة كبيرة متعرجة اتخذت عرض الزقاق الطويل.. لوَّح بالعصا راجزاً تحديه.. هازجاً ربط ثوبه حول خصريه الشاهقين نحولاً.. فارجاً ساقيه الأملحين.. استنشق أنفاسا خامرها مخاطه الآسن والرمل المعتق بالأوساخ.. مسح أنفه في كمه ضاحكاً: (طيرتها بعيييييد.. يلله جيبها يا الحلو).
نهْرا التعب والإنهاك الغائرين جرفا (هويني) فتثاقل عن جلبها.. لكنه يذهب إليها ككهل احدودب ظهره، وأنفاس يفترسها الغبار.. يمسك بالعصا بيد تستمد قواها من إشراقات الانتصار.. يشد ثوبه بأسنان يتقاطر من بينها لعابه لزجاً..فيقذف بها صوب (سويلم) زافراً: (الحلوه يا لمْجَلِّفْ) فلم يتملق الرد عليه.
تمكنتْ خبرة سويلم من إبعادها كثيراً عن الدائرة بضربة من عصاه، وطار إليها يوشح الزقاق ببهجته.. ضرب أقطابها بعصاً تحركها فتنة الفن.. تقفز، فتضربها فطنته العالية، فتبتعد أكثر عن الدائرة، بينا يعد (واحد).. وذكاء صاحبه يحاول تلقفها ليسقط لعبته، فيأخذ منه الدور.. لكن الخيبة قضمته ثلاثاً.
وبينا نشوة سويلم تعد المسافة ما بين الدائرة وبين مكان العصا الصغيرة بالعصا الطويلة، ليكسب أرقاماً تصل إلى المائة فيفوز.. شقاوة هويني تشوش عليه ليخطأ.. فصرخ اشمئزاز سويلم: (حرام عليك).. إلا أن الأخير شتم أباه..فلم يرد عليه إلا بـ (أنت قليل أدب).
زفر لسان هويني: (يا ولد العرجا عد صح).. فهاج ثور سويلم فعلق في حلقه صارخاً: لا تسب أبوي ولا أمي، هم أحسن ناس في الدنيا.
انفتلتْ العضلات، وقام الشجار العنيف.. أثخن كلٌ منهما صاحبه ضرباً.. حمّم كلٌ منهما جسد رفيقه في التراب الرمادي، بل وفرك كل واحد منهما وجه الآخر في الأرض حتى أدماه، وكادت ثيابهما، القصيرة الضاغطة، تتمزق بعد أن تقطعت معظم أزرارها بالشد والنزاع.
غرقاً في بحر الإنهاك، فتوقفا.. إلا أن هويني تزلف التهديد بالفتك والشتائم بأقذعها على أبي سويلم، فلم يرد عليه أيضاً، إلا بـ(الله بيحاسبك، يا أبو لسان وسخ، أبوك ما رباك زين).
هنيهات.. هدأت نفساهما.. وسرعان ما عادتْ قواهما البريئتان ـ من جديد ـ تخطان الدائرة في الرمل بالأقْدامِ العارية، بل بالأمل الذي يتجدد ولا ينفد.. وبدءا اللعب تارة يضحكان، وتارة يتوعد كلٌ منهما الآخر إن لم يكن أكثر صدقاً ووفاءً.
ساعة وما ملت نفساهما، وما نفدتْ طاقتاهما.. فإذا بسويلم يفيق من نشوة اللعبة والانتصارات، بيد رعناء خشنة.. جاءت من خلفه تقبض رقبته.. شراستها تلويها تكاد تكسرها.. أخذت من يده عصاه الطويلة، وراحت تكيله ضرباً بجبروت، وخرق صاحبها أذنه بصرخة قاسية: (يا ابن لمدمغه.. أدورك وأنت هنا تلعب القب.. ليش تنحاش اليوم بعد.. كم مره ضربتك عشان تروح معي النخيل؟).. توسل الابن أباه واسترحمه بألا يعود، وعيناه تصدعان حياء أمام رفيقه هويني الذي راح يغيب وجهه المختلط بالألم والضحك.
- عبدالله النصر