محمد آل الشيخ
الخوف من مرض (كورونا) يُشكل هذه الأيام قلقًا شعبيًا ينعكس صداه في مجالس السعوديين وفي منتدياتهم. بينما ثمة مرض أخطر وأشد فتكًا من فيروس (كورونا) هو تفاقم انتشار حبوب (الكبتاجون) المُسهّرة بين طبقات المجتمع المختلفة بتزايد خطير طلبًا للمتعة والسهر. فقد ذكر لي أحد كبار الضباط العاملين في مكافحة المخدرات، وهو يشير إلى انتشار هذا الوباء الخطير الذي يجتاح البلد: (العام الماضي «بس» قبضنا على ما كميته ستين مليون حبة من هذه الحبوب الفتاكة). وهذا يعني أن أضعاف هذا العدد الكبير والمرعب استطاع المهربون من الخارج والمسوقون في الداخل، أن يصلوا به إلى الأسواق السوداء في مدن المملكة وأريافها. وهذا النوع من المخدرات - كما يقول - هو أشدها خطرًا على صحة الإنسان السوي وسلوكياته؛ فقد ثبت مختبريًا لذوي الاختصاص من الفنيين الصيادلة أن هذه النوعيات المتداولة مخلوطة كيميائيًا بمواد أخرى تجعل من يستخدمها ولو لمرات قليلة يدمن عليها ولا يستطيع منها الفكاك، فيُعرض جهازه العصبي للخلل المرضي، بالشكل الذي ينتهي به إلى الجنون والعته العصبي والنفسي، ومن ثم الموت المبكر. خطورة الكبتاجون أنها أصبحت، خاصة في بعض الأرياف، من وسائل الاحتفال بالأعراس والمناسبات الاجتماعية، لبعث الفرحة والبهجة في نفوس وأمزجة المشاركين فيها؛ حيث يجري إضافة كميات من هذه الحبوب إلى أباريق الشاي المقدم إلى الضيوف، ذكورًا كانوا أو إناثًا، فتكتنف أمزجتهم البهجة والسرور، ويقضون السهرة مبتهجين. ولأن الذهنية الريفية ذهنية متدنية الوعي في كل دول العالم كما هو معروف، ولا تدرك المخاطر التي تنتج عن تعاطي هذه العقاقير الكيميائية الخطيرة، تنتشر هذه الحبوب في المناسبات والأعراس الريفية، انتشار النار في الهشيم، مُكرسة معها مرضًا وبائيًا خطيرًا، مؤداه في النهاية الحتمية تليها الأحاسيس والعته، والموت المبكر أخيرًا.
والسؤال: كيف يمكننا مواجهة هذا الخطر الداهم، وتحصين مجتمعاتنا منه؟
القضية معقدة وشائكة ومتعددة الأسباب والبواعث؛ أهمها على الإطلاق انحدار وتخلف الوعي بالمآلات الخطيرة لهذه الحبوب القاتلة، غير أن المشكلة قي انحدار الوعي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتحضر، والكثيرون منا - مع الأسف - من حيث التحضر في القاع، ويئمنون بالخرافات والأساطير، ونتبع الدجالين ونتبع ما يقولون، إلى درجة البلاهة والبلادة المضحكة؛ ومن أغرب ما سمعت في هذا المجال من صديق، أن أحد المتعاطين يؤكد لرفقائه أنه (اكتشف) طريقة إعجازية، تجعله يتعاطى حبوب (الكبتاجون) وفي الوقت ذاته يُحصِّن نفسه من أعراضها السلبية الخطيرة!.. كيف؟، يقول: إن يشرب كل صباح كأسًا من ماء زمزم مطعّم بمسحوق (حبة البركة) ويكون قد (نَفث) فيه أحد القراء، وهو يقرأ القرآن، وأنه بهذه الطريقة حمى نفسه من الأعراض السلبية، واستمتع غاية المتعة بهذه الحبوب، وحينما سأله صديقي متهكمًا: كيف توصلت إلى هذا الاكتشاف المُبهر؟.. قال: من الحديث النبوي الصحيح (ماء زمزم لما شُرب له)؛ قال له: ولكن هذه الحبوب محرمة وخبيثة، فكيف تخلط الطيبات بالخبائث؟ قال: ومن قال: إنها محرمة، أعطني دليلاً على ذلك.. تصوروا أين وصل بنا الطب الشعبي الموروث عندما يمتزج بأمراض وأوبئة العصر الحديث!
الأمر الآخر الذي لا بد من الإشارة إليه هنا، ومواجهته بشجاعة، أن حرب المتشددين على البهجة والسرور، وملاحقة المستمتعين بالفن والطرب والموسيقى، أسهمت مساهمة محورية في جعل الإنسان يبحث عن البهجة والسرور والمتعة بهذه الطرق الملتوية الخطيرة؛ فالمجتمع المتجهم، الذي يحارب الابتسامة، وينأى بفعالياته الحياتية واحنفالاته عن كل ما يبعث البهجة والسرور في النفوس، لا بد أن يكون مهيئًا على انصراف أفراده إلى شراء الكيف بأية طريقة، منها هذه الطرق الخطيرة، رغبة في التفريج عن ضغوط الحياة الجادة والمكللة بالكآبة. ولعل (هرب) السعوديين إلى خارج البلاد ما إن تحل أية إجازة حتى وإن كانت قصيرة زمنيًا، يؤكد ما أقول هنا؛ كما أن التضييق على أية فعاليات سياحية وترفيهية، وجعل المسموح منها يدور في نطاق ضيق ومحدود، من شأنه في النتيجة أن يدفع إلى شراء البهجة والسرور (كيميائيًا)، من خلال هذه العقاقير المدمرة. فالفن والموسيقى إن كان البعض يحرمونها دينيًا، فهناك من كبار الأئمة والفقهاء من لا يرى فيها بأسًا؛ وطالما أن الأبحاث العلمية النفسية، أثبتت أن (الموسيقى) تبعث البهجة والراحة في النفوس، مما جعلها علاجًا نفسيًا مساعدًا على حصار هذه الآفات الخطيرة، فنحن في أمس الحاجة إليها اجتماعيًا، كبديل مشروع وآمن لجذب الناس إليها، بدل انخراطهم في البحث عنها في المخدرات والعقاقير المخدرة. بقي أن أقول: إن الكبت والتضييق على الفعاليات الاجتماعية، وتحريمها، وملاحقة فعاليات الاحتفال بها، يؤدي بما لا يدع مجالاً للشك، إلى هروب المجتمعات إلى هذه العقاقير؛ فالضغط دائمًا يؤدي إلى الانفجار، لذلك لا بد من (التنفيس) اجتماعيًا من خلال هذه الفعاليات البريئة دفعًا لما هو أخطر وأشنع.
إلى اللقاء..