حدائق رقمية للسرد العربي ">
ما يحدث اليوم في المؤسسات الثقافية لدينا لا يعكس الأثر الحقيقي الذي قدمته التقنيات الحديثة والثورة الرقمية فكثير من أعمالها نمطي، والتواصل معها أسير عمليات بيروقراطية، وهي غير قادرة على فك القيود بما يتوازى مع الكتابة الحديثة التي عرفها الفن والإبداع وأظن من الأجمل أن يتوازى المنتج مع الوسيط ويستثمره لصالحه.
الشواهد على ذلك عديدة منها رداءة البرامج الثقافية في التلفزيون، غياب التطبيقات الرقمية الثقافية في الأجهزة الذكية، ندرة النشر الرقمي، عدم الثقة بممكناته، وضعف الاستفادة من فضاء الإنترنت لتقديم المحتوى الأدبي العربي من أجل توسيع نطاق الاتصال وتعميق الحوار، وإشاعة روح المجتمع الثقافي، وتجاوز عبث الرقيب والحدود القاسية، وتعزيز مفاهيم المجتمع المدني الذي حاصرته المؤسسات الرسمية، أو لم تؤمن به!.
تلك حالة شبه عامة جعلت نماذج مضيئة تعمل دون سند أو تعضيد يليق بها وبلا تقدير لمن يبذل وقته وماله لزرع شجيرات الضوء وتدشين نوافذ تفتح ذراعيها للغد وصانعيه.
وهنا أتذكر تجربة القاص والتربوي والصحافي جبير المليحان، أحد أبناء الجيل الثاني من المبدعين في المملكة.. تشكلت تجربته بين عدة أروقة منها الإبداع والتربية والصحافة، وحين أفاءت التقنية بخيراتها كان أول المستثمرين الواعين بما تمنحه للمبدع وللنص في آن واحد فأسس موقعًا أصبح علامة لا تخطئها العين ويلوذ بها المبدعون من كل مكان.
قبل خمسة عشر عامًا ولد موقع «القصة العربية» وفي ذهن المليحان رسالة مفادها إنشاء مشروع ثقافي معرفي عربي لجميع الأقلام الحرة في أي مكان، وتطوير آفاق الكتابة الأدبية عامة والسرد بشكل خاص، وتنويع تقنياتها مصحوبة بنقد مبدع وكاشف ودالٍ يطرح بشتى الصور والأشكال.
خلال فترة وجيزة أصبح الموقع مؤسسة مدنية وبيتًا لكتاب القصة يضم تقريبًا ألفًا وتسع مائة مشارك وفيه 14 ألف نص إبداعي، ولأن زامر الحي لا يُطرب جاء أول احتفال بالموقع من اليمن وهناك أصدر الكتاب الأول «قصص من السعودية» بالتعاون مع وزارة الثقافة اليمنية، وبدعم آخرين أصدر كتاب «قصص عربية» ولم أسمع عن قطاع ثقافي لدينا مد يد العون أو المشاركة أو التحالف مع هذا الجهد الفردي.
وجبير المليحان من رواد بناء المؤسسات الثقافية المحلية وصانع نجاحات فيها، والجميع يتذكر السنوات القليلة التي أمضاها في رئاسة مجلس إدارة نادي الشرقية الأدبي حيث قدم نموذجًا عصريًا يجدر بالمثقف القيام به والحرص عليه دون مساومة أو تنازلات.
وهو أيضًا لم يستجد الدعم من المؤسسات الثقافية، وهي لم تبادر، وأظنها لا تعي مسؤوليتها تجاه التجارب غير التقليدية لأن العقل الثقافي الإداري فيها لا يتجاوز الأمسيات وطباعة نسخ محدودة من الكتب وتنظيم الملتقيات النمطية، وكنت أتمنى أن يخرج نادٍ أدبي من غفوته فيدعم الموقع ماليًا؛ وذلك خير من إصدارات ورقية هزيلة تهدر من أجلها الأموال، تواجه تسويقًا سيئًا، وتغيب عن منافذ البيع، وتنعدم الفائدة منها، وتذهب غذاء للفئران في المستودعات المظلمة.
ظل مؤسس «القصة العربية» يدفع المال من جيبه الخاص وعندما التفت إليه أحد الأندية الأدبية ليكرمه في صورة تكافل اجتماعي، أراه غنيًا عنه، لم يقل النادي أن التكريم سيتجاوز الحفل الكلامي إلى تآلف بين النادي والموقع، أو طباعة بعض مختاراته، أو تقديم كتب إلكترونية، أو قواعد بيانات تنشأ من حدائق الموقع وعطاياه.. التكريم قريب، والوقت متاح، ولكن في بعض الظروف وفي بعض القطاعات تكون الأماني عصية.. لكنها غير مستحيلة أبدًا!
- محمد المنقري