د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
إنها جسارة مدهشة أن يتصدى باحث لمعالجة موضوع واسع متعدد الجوانب في ستة شروح كبيرة ذوات أجزاء (شرح المفضليات للأنباري، شرح اختيارات المفضل للتبريزي، معاني أبيات الحماسة للنمري، شرح الحماسة للمرزوقي، شرح الحماسة للتبريزي، شرح المضنون به على غير أهله للعبيدي)، ولولا رغبة قوية وإصرار فعّال ونية صادقة ما استوى لنا هذا الكتاب (البلاغة والنقد الأدبي في شروح الاختيارات الشعرية) في مجلداته الثلاثة، ولقد وفق الدكتور محمد بن سليمان بن ناصر الصيقل في اختيار هذا الموضوع ليقيم عليه بحثه لمرحلة الدكتوراه، وكان عمله في مرحلة الماجستير (البحث البلاغي والنقدي عند ابن رشيق القيرواني في كتابه العمدة) تجربة موفقة دفعته للمواصلة في هذا الاتجاه البحثي الشاق المثمر. عمد الباحث إلى التنقير عن مفردات بحثه مستقريًا محللًا ليقف على مدى عناية هؤلاء الشراح بمصطلحات البلاغة وقضايا النقد الأدبي.
جاء الكتاب في مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب، ألم في تمهيده بمفهوم الاختيارات الشعرية واقفًا عند أسمائها وأسماء أصحابها، وخصص الباب الأول لدراسة (البلاغة في شروح الاختيارات الشعرية) وهو أطول أبواب الكتاب، وفيه مدخل عالج فيه الباحث منهج البحث البلاغي عند شراح الاختيارات الشعرية، ثم عقد لموضوعات هذا الباب ثلاثة فصول هي علوم البلاغة المشهورة فجاء الفصل الأول عن علم المعاني، والفصل الثاني عن علم البيان والفصل الثالث عن علم البديع، وأما الباب الثاني فعالج (أهم الدراسات النقدية في شروح الاختيارات الشعرية)، والباحث قصد بالدراسات القضايا النقدية التي عالجها النقد العربي القديم، ولما كانت القضايا متعددة جاءت في ستة فصول، كان أولها عن (قضية الانتحال)، والثاني عن (عمود الشعر) والثالث عن (أغراض الشعر العربي)، والرابع عن (قضية السرقات) والخامس عن (القِدم والحداثة)، والسادس عن (اللفظ والمعنى)، وأما الباب الثالث فهو دليل على حرص الباحث على استكمال القول في شأن هذه الشروح فراح يعرض (شروح الاختيارات الشعرية من خلال الدراسات الحديثة) وجاء هذا الباب في أربعة فصول جعل الأول للمضمون والثاني للرمز الشعري والثالث للخصائص الأسلوبية والرابع للأوزان والقوافي.
على الرغم من ضخامة العمل واتساعه لم يكن الباحث منكفئًا على الرصد والجمع والتدوين بل أحسن تقديم مفردات البحث؛ فهو واضح المنهج يمهد بين يدي المسألة بمهاد نظري ملائم لا إسراف فيه ولا تطويل ثم يعرض لما جاء في هذه الشروح، وهو في كل ذلك واضح الشخصية فعال في مناقشته ومعالجته بلغة واضحة سليمة.
انتهى الباحث القدير إلى طائفة من النتائج المهمة التي لا يسعنا تفصيلها بل الإشارة إليها، فمنها “قلة عناية الشراح بالمصطلحات البلاغية والنقدية”، و”عدم وفائهم بجوانب البحث البلاغي والنقدي”، ومنها أنه “تميز جهد هؤلاء الشراح بالإيجاز في عرض المباحث والفنون البلاغة ودراستها وتحليلها وبالاقتضاب في عرض مسائل النقد وقضاياه ودراستها وتحليلها، وعدم وضوح مواقفهم النقدية منها [سوى المرزوقي]”. ومن ذلك أنهم لم يعدوا السرقات الشعرية عارًا بل نظروا إليها من زاوية فنية دعت بعضهم إلى امتداح إعادة المعنى بلفظ جديد أوفى بأداء المعنى، ولمس الباحث أثر إجادة الشراح دراسة الخصائص الأسلوبية وأن هذا متصل بنظرية النظم عند البلاغيين والنقاد العرب القدماء كما يتصل بنظرية الأسلوب والصورة الفنية الأدبية في النقد الحديث، ولم يغفل الباحث عن بيان رأيه في قضايا النقد العربي القديم، وتبين له أن التبريزي في شرحيه عالة على المرزوقي والأنباري اللذين كان لهما “عناية ظاهرة بفن التشبيه”، وبيّن الباحث استغراقه كثيرًا من شروح الاختيارات سوى الستة المذكورة، وأنهى الباحث خاتمته بتوصيات مهمة منها دعوته لبحث غرض (الوصف) في هذه الشروح، ومنها تحقيق شرح المفضليات للمرزوقي لغناه بعلوم اللغة والنحو والصرف والأدب والبلاغة والنقد.
اعتمد الباحث في بحثه على طائفة كبيرة من المصادر والمراجع التراثية والحديثة، وقد أحسن الأخذ منها والصدور عنها، ومناقشة ما فيها من أقوال، وعمله مثال مدهش لما يتصف به الباحث الحق من الصبر والأناة وتلمس وجه الصواب من غير تحيز؛ ولذلك أرى عمل الدكتور محمد بن سليمان بن ناصر الصيقل من الأعمال الموسوعية المهمة في مجال الكشف عن موضوعات البلاغة والنقد العربيّ القديم عامة، وفي شروح الاختيارات الشعرية خاصة، وهو كتاب جدير بالقراءة في نظري.