د. عبدالحق عزوزي
سبق وأن كتبنا في صجيفة الجزيرة الغراء أن الإرهاب لا دين له ولا ملة، يأتي على الأخضر واليابس؛ والإرهابيون الذين يقترفون جرائمهم باسم الدين لا يمثلون الإسلام في شيء.
فإيمان الفرد ودينه يرجع قبولهما ورفضهما كما ثوابهما إلى الله سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}، فلغة الإكراه غير موجودة في القرآن {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، فهذه هي طبيعة المقاربة القرآنية السلمية بل والمصيرية لظاهرة الاختلاف بين البشر لأن نقيض ذلك سيؤدي إلى النزاع والصراع، وسيميت «ثقافة الحوار» التي تستوعب التعددية الفكرية والاعتقادية وتسلم بضرورة التعايش بين الأديان والانفتاح على ثمار الحضارات الإنسانية المتعددة. ومن المغالطات الشديدة التي تعصف بالفكر الغربي عمداً أو تناسياً، رد الأعمال الإرهابية، التي يقوم بها بعض شباب المسلمين إلى طبيعة الدين الإسلامي، وربط بعض الفترات الاستثنائية التي مر بها المسلمون إلى نوع الحضارة العربية الإسلامية؛ فالتعاليم والتاريخ شيئان مختلفان، والتعاليم الدينية هي التي تحاكم أفعال الناس التي يقومون بها باسم الدين وليس العكس، فالآية الكريمة {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}، هي التي تحاكم ذلك الإرهابي الذي يفجر نفسه وسط الناس الأبرياء سواء كانوا مسلمين أو لا، والآية صريحة لا غبار عليها، ثم إن ذلك الإنسان إذا لم يخضع لسلطان هذه الآية فإن القرآن يحدد عقوبته: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}. فإذا ثبت جرم الإرهابيين، فلا علاقة للإسلام بهم وإنما هم إرهابيون، والإرهاب لا دين له ولا ملة.
ولا غرو أن الإرهابيين اليوم يستفيدون من فشل بعض الدول في تسيير الشأن العام وبناء نظام سياسي موحد كما هو الحال في العراق وسوريا وليبيا، ويستفيدون من العولمة التي تجعل الجميع يعيش في قرية واحدة وتحت سقف واحد، حيث إن منصات وسائل الإعلام الاجتماعية مثل «يوتوب» و»فيسبوك» و»تويتر» تقوم بالدعاية لإيديولوجيتهم، والتجنيد الرقمي والميداني للآلاف من الملوثة عقولهم في العالم بأسره بما فيهم صغار السن، والتشهير بجرائمهم الوحشية مثل قطع الرؤوس، والتفاخر بأسواق الرقيق من الفتيات والنساء للتأسيس حسب زعمهم لحياة دينية مثالية في ظل قانون لا يعلى عليه...
والتقرير الأخير الذي أصدرته قبل أسبوعين وزارة الخارجية الأمريكية حول الإرهاب في العالم يضع الأصابع على الجرح الحقيقي، لأن جزءا كبيرا من هذا الإرهاب العالمي هو من عقر دارنا وترعرع في مجتمعاتنا ليصبح فيروسا لا يخمد. فمنطقة الشرق الوسط حسب التقرير لا تزال العاصمة العالمية للأنشطة الإرهابية في عام 2014 بامتياز، مع تصاعد نفوذ تنظيم داعش، وانهيار القشرة الحامية للبلدان في سوريا والعراق، ناهيك عن الأوضاع غير المستقرة في اليمن وليبيا... وهذا الإرهاب هو مبرر بالدين ومسوغ بالشريعة ومسوند بالفتاوي للأسف الشديد، وهو ما يفسر حمى التنافس ولهيب التسابق لدى الجماعات الإرهابية نفسها، كما يفسر توسعها اللامسبوق واستيلاءها على الأراضي في العراق وسوريا مثل داعش وجبهة النصرة والتنظيمات التابعة للقاعدة...
ومما يزيد الطين بلة أن هذا الإرهاب المجالي في منطقة الشرق الأوسط هو نتيجة لإرهاب لا مادي أو لا مجالي مبني على الإقناع الإيديولوجي وعلى الشعارات السياسية الدينية الخاطئة وعلى الصيغ الهلامية التي لا تناقش بالعقل بل تتوالى وتنتشر بنهج الإعلان ولا تعترف بالحدود، وهو ما يفسر الإرهاب الأعمى الذي ضرب يوم الجمعة الماضي وفي صبيحة واحدة ثلاث دول في ثلاث قارات حول العالم ليترك وراءه العشرات من الموتى، وهي دول فرنسا والكويت وتونس، واستهدفت تلك الهجمات إما بيتا للعبادة أو منتجعا سياحيا أو مصنعا، بمعنى أن الإرهاب يأتي على كل شيء ولا دين له ولا ملة، قبل أن تطلعنا وسائل الإعلام أن عدد المدنيين الذين قتلوا في مكان رابع وهو عين العرب السورية «كوباني» على يد مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية بعد دخولهم إليها بلغ 206 قتيلا إما إعداما أو بقذائف أو عن طريق قناصة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قارن معي: لو أن هؤلاء الجهلة الإرهابيين يمثلون الدين، فأي نفس ستسمح لهم بمهاجمة بيت من بيوتات الله في يوم الجمعة وفي أعظم شهر من شهور الله في السنة، ولو أن لهم مرجعية دينية فأي نفس ستسمح لهم بقتل مدنيين عزل. هؤلاء البشر هم إرهابيون يمارسون العنف باسم الدين وباسم الإسلام، وهما براء منهم؛ ولكن نبقى معنيين قبل غيرنا من الشعوب، لأن هؤلاء الإرهابيين يخرجون تباعا من أوطاننا ومن تاريخنا المعاصر ومن ثقافتنا...
هؤلاء الإرهابيون ينطلقون من فكرة واحدة وهي أن الدين غير مطبق وينبغي الاستيلاء على الدولة لتطبيق الشريعة بواسطتها وبكل الطرق، ويجب الجهاد في ذلك بكل الوسائل في أوطاننا كما في الغرب. فهناك إذن اعوجاج في فهم الدين، وضلال مبين في فهم مقاصد الشريعة السمحة، وخلط بين السياسة والدين؛ فتعريض المصالح العليا للبلد (كالسياحة بالنسبة لتونس أو محاولة تأجيج الصراعات الطائفية والمذهبية كما في الكويت) هو مطية للاستيلاء على الدولة بكل الطرق الممكنة، كما أن زرع بذور وفتاوى التكفير ما هو إلا الوسيلة المثلى لصناعة المغناطيس لجذب شباب المسلمين، وهذا خطر وأيم الله على الدين وعلى الدول.
الطالب الذي قام بالهجوم الإرهابي على فندقين بمدينة سوسة بتونس خلف لوحده 39 قتيلا؛ والطالب كان يعي طبعا أنه بعمله هذا سيوقف لا محالة عجلة الاقتصاد التونسي وهذا غرضه، وكان يعي أنه سيتم قتله، كما كان يعي أنه لن يغير بعمليته الإرهابية أي شيء من مسألة تبطين الدين في الدولة، ولكن لم يع أنه بعمله هذا فإنه سيقوض بعضا من تمثلات ممارسة الشعائر الدينية في بلد متسامح (قرار غلق 80 مسجدا في تونس لأن ما ليس مراقبا سيصبح متهما)... ثم فما بالك بردة فعل دول كبريطانيا وألمانيا وفرنسا عندما سترى بلدا مسلما يغلق العشرات من المساجد في شهر رمضان، هل ستبقى مكتوفة الأيدي؟ ألن تتقو عند ساكنتها الإسلاموفوبيا؟ ألن تنادي هي أيضا بغلق المساجد والحذر من الممارسات الدينية المسلمة كيفما كان نوعها؟
ما وقع في تونس، وما وقع في فرنسا والكويت منذر بقيام إرهاب جديد، محركوه أفراد لا يمكن كشفهم مسبقا وهنا الخطر. يمكن أن يتوصلوا بأوامر من القيادات الإرهابية كما يمكنهم أن يتحركوا لوحدهم، في إطار إرهاب لاترابي ولا مجالي، لا يؤمن بالحدود ولا بنوعية الأنظمة السياسية ولا نوعية البشر أو الدين. والذي نراه اليوم إن بقيت الأمور على ما هي، هو ضياع أجيال بأسرها ستكون ضحية لهذا الاستقطاب الإرهابي، ولن يبق أي فرد في مأمن في حياته وحياة أبنائه في السنوات وفي العقود المقبلة.
أشار التقرير السالف الذكر الذي يقع في 388 صفحة أن عدد المقاتلين الأجانب الذين سافروا إلى سوريا بلغ أكثر من 16 ألف مقاتل إرهابي أجنبي من أكثر من 90 دولة، بما يفوق نسبة المقاتلين الأجانب الذين سافروا إلى أفغانستان وباكستان والعراق واليمن والصومال خلال الأعوام العشرين الماضية. كما أن هذا التقرير يلخص مبادئ واسس وتوسع هذا الإرهاب، ويلقي باللائمة على الفشل السياسي والاقتصادي لبعض الدول كما يشير إلى تشجيع دولة بعينها لهذا الإرهاب وهي إيران من خلال الحرس الثوري وفيلق القدس ورعايتها لجماعات مثل حزب الله اللبناني والكثير من الجماعات الشيعية العراقية، وأنظمة بعينها كنظام الأسد، ولكن الجانب الأكبر الذي غفله التقرير أو تغافله في الاستراتيجية لمحاربة الإرهاب هو الجانب الفكري والإيديولوجي الذي يجب الاستثمار فيه، والنجاح فيه إنقاذ للأجيال المقبلة ولكل البشرية وهو الذي يجب أن يقوم على تجديد للروح وتحديث للعقل، لنبني في مجتمعاتنا وعيا فائقا بالماضي والحاضر والمستقبل بقوانين العلم وأساليب الحياة، بنظام الكون ومنطق التاريخ، وهاته مهمة مجتمعاتنا المسلمة الأولى.
فالذي يقع مرده إلى اعوجاج في فهم الدين، والذي لا تستثمر فيه الأوطان العربية للأسف الشديد. وكان يجب أن يقابله نقد عمليات تحويل المفاهيم الدينية التي طبعت العقود السبعة الماضية والتي أخرجت الدين عن المسار الحقيقي، ويجب أن يقابله في نفس الوقت تحسين إدارة الشأن العام، فهذا الجانب هو العلاج الأمثل لطمأنة الشعوب والناخبين، ودول كتونس لا يجب أن تستسلم، إذ يجب أن تستمر في الإدارة الصالحة وحسن تسيير الشأن العام... فبذلك تتحقق تماسك المجتمعات وتجذر ركائز العدل الاجتماعي والاقتصادي والتنمية والحريات العامة، وهذا أفضل جواب على الإرهاب.