محمد سليمان العنقري
التراجع الحاد الذي شهدته أسعار النفط وأفقدها نحو خمسين بالمئة من أعلى مستوياتها، ظهر أثره سريعاً بتحقيق عجوزات بموازنات دول الخليج عموماً، وإذا كان ذلك أمراً متوقعاً بسبب اعتمادها على النفط كمصدر رئيس بالإيرادات العامة، فإن ذلك يطرح تساؤلاً حول إمكانة تحقيق الوحدة النقدية الخليجية بالمدى المنظور القريب بين الدول التي التزمت بها،
وهي السعودية والكويت وقطر والبحرين، بينما انسحبت الإمارات، وأما سلطنة عمان فقد أخذت قرارها منذ البداية بأنها لن تكون ضمن الاتحاد النقدي لأسباب اقتصادية تخص احتياجاتها المستقبلية.
ورغم أن دول الخليج استطاعت في العشر السنوات الأخيرة من بناء احتياطيات نقدية ضخمة تقدر بأكثر من تريليوني دولار وخفض الدين العام لمستويات منخفضة جداً، حيث لا يتجاوز في أعلى الدول الأربعة التي التزمت بالاتحاد النقدي وهي البحرين عند 35 بالمئة بينما يصل في السعودية لأقل من 2 بالمئة، مع قيام الدول أيضاً بإنفاق حكومي عام ضخم على مشاريع التنمية بمئات المليارات وحصولها على تصنيفات ائتمانية ممتازة إجمالاً مما يعد تحوطاً ممتازاً لفترة تراجع أسعار النفط التي كانت متوقعة إذا ما عدنا لما صدر من تصريحات في مناسبات عديدة سابقاً، إلا أن تسارع الانخفاض قد يكون هو المفاجئ، لكنه بالتأكيد لن يلغي أهمية التحوط الذي اتخذته دول الخليج خصوصاً التي ما زالت ملتزمة بالوحدة النقدية.
لكن هذا التراجع بأسعار النفط الذي يفتح التساؤل على مستقبل الوحدة النقدية تكشف الإجابات عليه الكثير من النقاط التي يجب التوقف عندها، فأولها هل ستستطيع الدول الأربعة الالتزام بشروط هذه الوحدة النقدية؟ فمن المعروف أنه من الشروط ما يتعلق بنسبة العجز بالميزانيات الحكومية التي يجب أن تبقى في حدود 3 بالمئة، بينما على سبيل المثال يتوقع أن يبلغ هذا العام في السعودية في حدود 17 بالمئة بموجب تقديرات الميزانية التي اعتمدت للعام المالي الحالي، والتي قد ترتفع لأكثر من ذلك بسبب ارتفاع الإنفاق المتوقع وتراجع إيرادات النفط الذي تتقلب أسعاره بحدة منذ بداية العام، فيما حققت الكويت عجزاً فاق 5 بالمئة ويتوقع أن يرتفع للعام المالي القادم، وكذلك ستحقق قطر والبحرين عجوزات مشابهة، أما الدين العام نسبة للناتج المحلي لكل دولة رغم أنه سيبقى بعيداً عن نسبة 60 بالمئة المعتمدة كأحد شروط الوحدة النقدية لكنه مرجح للتذبذب للأعلى بحيث أنه سيعود للارتفاع لعاملين تراجع الناتج المحلي بسبب انخفاض إيرادات النفط، وكذلك الاتجاه لتغطية العجز بالموازنات من خلال العودة للاقتراض.
لكن ما يهمنا في المرحلة الحالية والقادمة هو الاتجاه الإستراتيجي الذي سيتبع لضبط السياسات النقدية والمالية للدول الأربعة لكي تبقى ضمن الحدود التي تسمح بتحقيق الوحدة النقدية أو حتى ما بعد قيامها رغم أن الموعد الذي كان مقترحاً قد تأخرت الدول عنه خمسة أعوام، لكن المهم متى وكيف ستصل الدول الملتزمة به إلى إمكانية إطلاق العملة الموحدة.
إلا أن ما يظهر على السطح من معطيات ملحة هو كيف ستقلل دول الخليج عموماً من اعتمادها على النفط كمصدر رئيس للدخل يصل حالياً إلى نحو 90 بالمئة بالمتوسط، وذلك لتقليص التذبذب بالناتج الإجمالي المحلي، وكذلك التضييق على التباينات التي ستظهر بالسياسات المالية ومستويات العجز والدين العام فيها من هذا العام، فهل سنوات ارتفاع أسعار النفط لم يستفد منها بجوانب إصلاح هيكلية اقتصادياتها بحيث تتجه لتنوع مصادر دخلها؟ وهو الذي يعد العامل الأهم من أي شروط أخرى للوحدة النقدية، بل الأهم لكل اقتصاد دولة في مجلس التعاون الخليجي بمعزل عن الاتحاد النقدي وأهميته، فمن المهم أن تتسارع الخطوات نحو هيكلة اقتصادية واسعة تنوع الإنتاج ومصادر الدخل وتحسن من سوق العمل وترفع من مستويات التبادل التجاري بين دول الخليج وتعزز من تدفق الاستثمارات لها، وترفع من كفاءة القطاع الخاص، وتقلل من دور الإنفاق الحكومي بالناتج المحلي، وتسهم بتحسين تنافسية الاقتصاد عالمياً، وتوسع من دور المنشآت الصغيرة والمتوسطة واتجاهات سوق التمويل بما يخدم استمرار التنمية مع تطوير للأنظمة والتشريعات التي تيسر على قطاع الأعمال التوسع بنشاطه. صدمة تسارع تراجع أسعار النفط مع مجمل التحولات الاقتصادية الدولية تضع دول الخليج أمام تحدي تنفيذ خططها التنموية التي تعمل عليها منذ عقود باتخاذ إجراءات تسهم بتنفيذ إستراتيجياتها التي اعتمدت منذ سنوات للوصول إلى اقتصادات متنوعة ومنتجة ومصدرة وبيئة خصبة للاستثمار ونمو فرص العمل، خصوصاً أن الإمكانات المتاحة قوية بما يكفي لتحقيق تلك الأهداف المنشودة ومن بينها التكامل الاقتصادي الخليجي بكل جوانبه.