إن كلام الله عزّ وجلّ حينما يوجه المؤمنين إلى ما يرتقي بفهمهم وجودة خطابهم تشعر أنهم يحنون عليهم في أساليب تعليمه وتوجيهه. ولما كان الكلام لغة التخاطب والاتصال الرئيسة بين البشر ومن منطلق خيرية هذه الأمة علمهم القرآن كيف يكون درجات منبر التكلم والتخاطب بينهم في أسرارهم وإعلانهم، ودرجاتهم بالقرب والبعد والسن والعلم. فهو الأسلوب التربوي الفريد الذي تجد فيه من كنوز استمالة القلوب وتهذيب الطباع النافرة، وزرع الألفة بين الناس. ومن مثال ما جاء في هذا الشأن، ما وجدته في سورة المجادلة. فالآيات وجهت الناس إلى كيفية المناجاة والتناجي، ثم انتقل بعد ذلك ليرشدنا إلى الحد من الجرأة على النبي بطرح الأسئلة الكثيرة، وفتح باب المناجاة معه صلى الله عليه وسلم. وقد جعله الله تبارك وتعالى عبده ورسوله وهو خير البرية صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه.
ولأن النجوى إنما تكون عادة في المجالس جعل أسلوب التربية في هذا الشأن وسط آيات التناجي، ليبين أدب المجلس أيا كان. وفصل في المقام الحاصل فيها فقال سبحانه {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}. فالقرآن جاءنا بالبديل عمّا كان عليه الناس في الجاهلية من التناجي الموروث. وبين كيف يكون المجلس الذي يتوشح بحضارة الإسلام بتوجيه من خالق الأرض والسماء سبحانه، بعد أن عرف الناس مجالس الملوك والجبابرة وما يكون فيها من التكبر والتغطرس والإذلال.
ولو انتقلنا إلى صورة أخرى من صور جماليات القرآن، فإننا لو سألنا أي أحد هل يستطيع أن يشرح لأمه أو لأخته أو لبنته آلية العلاقة الكائنة بين الرجل وزوجه من تداعيات الفطرة التي مغروسة في طباعهم؟ الجواب قطعًا سيكون بلاء. فليس لأحد مهما كانت قدرته أن يصيغ تفاصيل هذه العلاقة بأسلوب يستطيع من خلاله أن يعرضه على محارمه أو غيرهم. لكن القرآن الكريم صاغها ببدائل لا تخدش أحاسيس قارئ أو سامع كبير أو صغير أنثى أو ذكر فقال {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} وهذا كلام بليغ نستطيع أن نصدح به في كل مجلس وأمام كل أحد.
ولما أراد الله سبحانه وتعالى أن يخبرنا عن سيدنا عيسى ابن مريم وأمه قال في كتابه العزيز {مَّا الْمَسِيحُ ابن مَرْيَمَ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} فما الغاية من إخبارنا بأن سيدنا عيسى وأمه مريم كانا يأكلان الطعام إنما أراد الله جلّ جلاله أن يبيّن لنا أن عاقبة أكل الطعام لدى المخلوقات إنما تنتهي بالذهاب إلى الخلاء لقضاء الحاجة. وهي إشارة إلى إنما هما بشر يحصل لهم ما يحصل للبشر بعد أكلهم للطعام، وهو ما لا يليق بمقام الألوهية الذي اتهمهم قومهم به. فإذا نظرت إلى أسلوب القرآن الذي جاء في وصف أول الأمر استغربت، إِذ كل أحد يأكل الطعام فلا ميزة لآكل طعام من البشر، ولكن الآية قصدت ما يؤول إليه الحال في وصف هذا الإِنسان، ولما كانت كلمة الذهاب إلى الخلاء وما ينتج عن ذلك من الأمور التي يترفع القرآن عن ذكرها جاء بالبديل المناسب، فوصفه بوصف لائق جميل، وقصد بذلك الوصف شيئاً آخر أصبح بينًا وهكذا تؤتي لنا الآية صيغًا مباركة من بدائل الكلام التي تؤدي إلى المقصود بغير الكلام المباشر.
وإذا تأملت في الصفة التي وصف الله بها أصحاب الفيل بعد أن أخزاهم وأذلهم، حيث قال في حقهم: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مأْكُول}، والعصف المأكول إنما هو في الحقيقة بعر الغنم والإبل، حيث إن أصل هذا البعر هو العصف وهو طعام البهائم، ولأن العصف نظيف في أصله جميل في مظهره، أضاف الله له صفة كونه مأكولاً، فإذا أكل العصف صار بعرًا، فتجده متنأثرًا في معاطن الإبل. فاختار القرآن الكريم وصفهم بالعصف المأكول بدلاً عن الدمن المنثور، فأنت تنظر إلى بلاغة القرآن وكيف قدم لنا أروع البدائل وأبهرها.
فالقرآن جاء ليربي الألسنة على الكلام الطيب، ويمد الناظر فيه إلى الأسلوب الأمثل في التعاطي مع الأحداث وكيفية التحدث عنها. فإذا قال لك أحدهم إن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبيانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} فاعلم أن القرآن الكريم خلق من الخلق مؤمنًا فطنًا لبيبًا ينظر إلى كلام ربه بإكبار وإعجاب يغطي مساحة قلبه، ليرى في كلام الله صورًا من الحقائق الحميلة المبهرة، ويعيد النظر في أوقات الفتوحات الإلهية، ويغتنم فرص المناجاة التي تفتح أبواب قلبه وتدخل العناية الربانية فيه فتضيء الجوانب المظلمة بنور الإيمان وأنوار القرآن، عندها تزداد رغبة ويلهج بالثناء على ربه طالبًا المدد والفتح مصليًا ومسلمًا على المعلم الأول الذي دعا إلى الله على بصيرة وفتح الله به قلوبًا ضاع مفتاح نورها ونشر في أرجائها حبًا لمن أنزل غيثه من غمام معلق بين السماء والأرض، وغيثًا آخر في قلوب ما نبت فيها من نبات الجهل شيء فأصبحت بغيوث الرحمة حدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعًا وأي متاع.
الشيخ إبراهيم الأخضر بن علي القيم - شيخ القراء بالمسجد النبوي