تقلبات على فراش شوكي ">
هذا الحلم المؤذي آلمها كثيرا، انقلبت على شقها الأيمن، تفلت على كتفها ثم تمتمت بالمعوذتين، ازدردت بضع جرعات من الماء، ثم أغمضت عينيها، تذكرت الحلم بكل تفاصيله، كانت كأبهى عروس ترتدي فستان زفافها، كان يمسكها من يدها والموسيقى تنساب ندية في لحن حماسي صاخب تبتسم وهو يضغط على يدها ويبشّر بالأخرى، ثم تنطفئ الأنوار وينساب اللحن رقراقا، يضمها إلى صدره.
تنطلق الصافرات حادة، تنداح مع اللحن (.. بقدم ليك حياتي.. حياتي وحياتي.. ومعها العاطفة النبيلة) تنفرج المسافة بينهما والأضواء الخافتة تلتف حولهما في شكل دائري، يضمها إلى حضنه ثانية ولا تزال الصافرات تنطلق بشدة، وفجأة ترى في عينيه نظرة خوف منها، تنظر إلى مكان نظرته، شعرها الطويل الممتد أمامها في شكل خصال متموجة تخرج منه حية عظيمة، يختلط اللحن عليها، تقفز الحية من شعرها واثبة نحو عريسها، مادة لسانها إليه، ينفلت عريسها من بين يديها، تصيح به، يجري منها، ثم.. تضاء الأنوار، تسمع همسا، تجري خلفه، يهرب منها، تقبض عليه، يدفعها بعنف ويهرب!!
* * * * *
تقلبت على السرير يمنة ويسرة، كان العرق يغطى وجهها وكأنها قد وقعت من أعلى الجبل، ذات الحلم يتكرر ثانية بتفاصيله جميعها، فجأة تذكرت الوداعية بخيتة (السيجمانة *.. أي عديمة الفائدة).. سموها بهذا الاسم - همسا - بعد أن تيقنوا بأن ودعها لا يصدق منه إلا السيئ فقط، وجدتها وصديقاتها على مائدة الإفطار، كشكت ودعاتها دون أن تنتظر منهم إذنا، التفتت إليها هي دون الأخريات.
نظرت في داخل عينيها وقالت (إنت الويحيد دا منو؟)، لم تنتظر منها ردا وأضافت بخيتة بذات صيغة المباغتة (يومك التشوفي نفسك لابسة الأبيض خلاص)، انتفضت بوجل وردت عليها سريعا (خلاص شنو؟) لملمت ودعاتها وربطتها في قماشها المتسخ وكأنها لم تسمع سؤالها، جرت وراءها وهي تلوح لها بورقة مالية كبيرة القيمة، غير أن النقود لم تثنها على الرجوع ثانية للإجابة عن السؤال، نادتها بأعلى صوتها (بخيتة.. خلاص شنو.. بخ..ي..تة) ثم انكفأت تبكي!!
* * * * *
كان الفراش باردا، طار النوم من عينيها، الحلم يراودها كثيرا، هاهي الأبيض تراه مرأى العين، همست في سرها (الأبيض في الزفاف) واستطردت خائفة (الأبيض في الكفن)، رأسها يكاد ينفطر من فرط الألم، هو السبب في كل ما يحدث لها الآن، تذكرت عندما جاء يطلب عملا لدى مؤسستها، سيماؤه كان يبدو عليها الفقر، عيناه كانتا منكسرتين وجميلتين.
كانت تعرفه قبل ذلك اليوم ولكنها أحست في ذلك اليوم بأن نظراته كانت تخترقها من قمة رأسها حتى أخمص قدميها، تذكرت أن هالة صديقتها أخبرتها في ذات اليوم بوضاءة وجهها الذي لم تكن تضع فيه غير الكحل، انتفضت من رقدتها تلك وهي تذكر تكراره لزيارتها في مكتبها وفي كل مرة ينظر إليها داخل بؤبؤ عينيها، نظراته كانت تطلب منها أن تتوسط له في العمل، قالها بنظراته دون أن ينطقها بلسانه، أشارت إليه بأن يضع أوراقه وستجتهد حتى تجد له عملا.
* * * * *
استمرت في رقدتها والنوم يجافي عينيها، تقلبت على سريرها ذات اليمين وذات اليسار وكأنها تتقلب على الجمر، تذكرت رسائله المنمقة التي كانت تفعل بها فعل السحر، وجدت يدها تمتد نحو جوالها، أعادت قراءة الرسائل، تصفحتهن الواحدة تلو الأخرى، (أحلى منك قايلة بلقى)، قذفت بجوالها بعيدا، ارتطم الموبايل بالأرض محدث صوتا ولكن لم يستيقظ أحد، تذكرت عندما حملت شهاداته إلى مديرها، قلب أوراقه بسرعة قائلاً: (ليس في أوراقه ما يميزها عن غيرها بيد أننا سنوظفه من أجلك) تغافلت عن تلميحات مديرها وخرجت وهي تعصف الباب وراءها وهي تغمغم بكلمات الشكر.
* * * * *
أرسلت له رسالة إلكترونية قصيرة تهنئه فيها بالعمل، جاء سريعا، لم يشكرها على ما فعلته من أجله، كان يحشر صديقه بين كل جملة وأخرى، تحدث عن علاقات صديقه بالمدير وفضلها في تعيينه، لم تقل له شيئا توضح له دورها، حمدت ربها أنهما يعملان تحت سقف واحد، كان قلبها ينتفض وهي تسمعه يتحدث عن مؤهلاته العالية، شهاداته الكثيرة، خبراته المتراكمة، ثم أكمل حديثه بعبارة (البلد ضيقة)...
لم تغضب منه لأنه كان يتجاهل عمدا بأنها السبب وراء تعيينه، دربته على يديها، أفرغت كل شحنات الغضب التي كان يحملها تجاه حاكميه، أصدقائه، زملائه، شرحت له كل فنون الصرافة، أحرقت كل طاقات الكسل التي كان يحملها في داخله، أخبرته بكل شيء، لم تخف منه شيئا حتى رقم خزانتها المؤتمنة عليها.
* * * * *
أصبح الصباح والنوم لم يغش عينيها، تذكرت بداية الحلم فأخذت تردد أغنية (.. أقدم ليك حياتي)، دلفت إلى مكتبها، أدارت أرقام خزانتها ولكنها لم تفتح سريعا، رددت بعض الآيات القرآنية ثم أدارت الأرقام ثانية، ففتحت الخزانة أمامها، كانت خالية تماماً إلا من بعض الأوراق.
* * * * *
جلست القرفصاء في بلاط السجن، الليل كان لا يزال طويلا، طفرت الدموع من عينيها وهي ترى نفسها تتقلب في شق ضيق بين السجينات المتراكمات حولها، مسحت دموعها بطرف ثوبها، فجأة نظرت إلى لونه الأبيض وتذكرت حلم الأمس وودعات بخيتة.
- نجاة إدريس إسماعيل