محمد آل الشيخ
يقول جل وعلا: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْض}. أريدكم أن تُطبقوا ما تضمنته هذه الآية الكريمة على ما كانوا يسمونها بالصحوة الإسلامية، التي صعدت ثم اشتد عودها وعلا صوتها في الثمانينيات والتسعينيات، من القرن الميلادي المنصرم، وجزء قليل من العقد الأول من الألفية الثالثة، ثم هوت على يد (القاعديين) أولاً ثم على يد (الدواعش) ثانيًا، ستجد هذه الآية تنطبق تمامًا على هذه الصحوة المزيفة؛ فقد كانت في واقعها مجرد ظاهرة انقلابية وانتهازية سياسية محضة، اتخذت من الدين ومظاهره وقيمه وموروثاته، مطية تمتطيها، لتحقيق غايات سياسية ميكافلية، تمامًا كأي غاية حزبية أخرى؛ والميكافيلية هي أس السياسة وأداة السياسيين، ولا اعتراض لدي أبدًا على الميكافيلية والذرائعية، كأدوات سياسية؛ غير أن الذي نعترض عليه، ينحصر في أنك حينما تُسبغ على الانتهازية والميكافيلية والرياء السياسي، ثوبًا من القدسية الدينية، يتحول الاختلاف معك أو معارضتك أو نقدك ونقد ممارساتك، تعريضًا بالدين واعتراضًا عليه؛ فيصبح من ينتقدك ويختلف معك، يعترض وينتقد الدين، الذي لا يجوز البتة انتقاده، أو المساس بقيمه، أو تناوله تناولاً تحليليًا دنيويًا؛ وهنا مربط الفرس.
السياسة هي أولاً أخيرًا مصالح دنيوية لا دينية؛ والصحوي المسيس المتذرع بالدين يجعل منه درعًا يتلقى عنه النبال، وبذلك يصبح الدين (خادمًا) لا (مخدومًا)؛ ومن يقرأ الإسلام قراءة مستفيضة، وشاملة، لا يتوقف فيها عند الأوامر والمنهيات بظواهرها، وإنما يغوص إلى المقاصد وعِلل الأحكام، لا يمكن أن يقبل أن (ينزل) الإسلام إلى هذا الدرك الأسفل من الذرائعية، ليخدم هذا أو ذاك، بتفسيرات وتأويلات لم ينزل الله بها من سلطان، وإنما هي من (فبركات) الكهنوتيين.
الإسلام هو أولاً، وقبل أي شيء، (توحيد) الله بالعبادة الخالصة من الشرك والانتهازية والرياء والذرائعية، وإقامة (الصلاة) المفروضة، وصوم (رمضان)، وإيتاء (الزكاة)، و(حج) البيت الحرام إذا توفرت الاستطاعة؛ فإذا تحققت هذه الشروط (الخمسة) على سبيل الحصر، يصبح الفرد مسلمًا مُهتديًا، ولا يضره من ضلّ إذا تمسك بهذه الأركان الخمسة، عملاً بقوله جل شأنه في محكم كتابه {لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، غير أن الصحوة أقحمت في القضية شرطا آخر، مؤداه أن تُجبر (الآخر) بقناعاتك وبأدلتك حتى وإن كانت ظنية لا قطعية، وإذا فرطت في فرض هذه القناعات بالقوة، فإن إيمانك لم يكتمل. هذه الإضافة هي التي (سيّست الإسلام)، ونقلته من كونه (عقيدة) صافية بين العبد وربه، إلى (سلطة) و(عصا غليظة) في يد الصحوي، فيُكفّر هذا، ويُزندق ذاك حسب رؤاه ورؤى مشايخه، ثم تطورت فلسفة (الصحويين) السياسية وسطوتهم، فظهرت (القاعدة) واتخذت من (الجهاد) مطية، واستبدلت العصا الغليظة، بالسيف وتفخيخ الأجساد وتفجيرها، ثم تطرف الصحويون أكثر، فظهرت (داعش)، التي لم يستبيحوا دماء غير المسلمين، كما فعلت القاعدة، فحسب، وإنما ألحقوهم بكل من اختلف معهم، ومع طرحهم السياسي، من المسلمين أنفسهم؛ فطفت على السطح ظاهرة تفجير المساجد، واعتبروا ذلك - أيضًا - ضربًا من ضروب (الجهاد)!
ومن يقرأ تاريخ فرقة (الخوارج) وكيف خرجت، لا تُخطئ عينه أنهم خرجوا في البداية لأسباب (سياسية) محضة، وليست عقدية، ثم طوروا (خروجهم) فيما بعد، ليجعلوا له أسبابًا عقدية، ومن هنا جاءت ظاهرة (التكفير) وإباحة إراقة الدماء، ثم أصبحت ديدنًا، لكل من انشق سياسيًا، وتمرد على السلطة السياسية القائمة. الصحويون المتأسلمون ساروا على النهج نفسه، فجاءت (جماعة الإخوان) وجعلت من (تكفير) السياسي ذريعة للخروج ونسف البيعة، وباعثًا لمبايعة (مرشد الجماعة) كبديل لولي الأمر، ثم أتت (القطبية)، ومنها أتى تنظيم (القاعدة) فطورت الخروج على السياسي، بالخروج المسلح وامتشاق الحسام، والذريعة طبعًا هي ذاتها ذريعة الخوارج (الكفر) بالله، ومن ثم جاء من رحِم القاعدة تنظيم (داعش) فلم يكتف بمنهج القاعديين فحسب، وإنما جعلوا من تفجير المساجد على كل من اختلف معهم عملاً (جهاديًا)، جزاؤه - كما يزعمون - الجنة والنعيم الدائم، فتقاطر عليهم كل شذاذ الآفاق ومجرميها، ليلتحقوا بهم و(يُجاهدوا) معهم، ويُفجروا أنفسهم.
الخوارج سقطوا، والقاعدة الآن سقطت وخبا وهجها، وداعش لا محالة، ستسقط وتنتهي؛ كل ذلك مصداقًا لقوله جل شأنه {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}. وما نعاصره الآن ليس هزيمة وسقوطًا للقاعدة ولا لداعش فحسب، وإنما هو سقوط ونهاية لما يُسمى بالصحوة ومناهجهاومنتجاتها إلى اللقاء.