فيصل خالد الخديدي
بعد أن حل المساء وسكن الجميع، صعد بهدوء لمرسمه حاملاً معه كوبًا من القهوة وكثيرًا من الإحساس والشوق لعالمه وألوانه وبوح روحه، وبدأ في تلمس قماشة لوحته وترتيب فرشه وألوانه، بل إن ألوانه هي من بدأت بترتيبه فالألوان الأحادية هي الأساس في كل لوحاته، ولونه المحبب لا بد أن يكون حاضرًا ملاصقًا لسطح القماشة مباشرة، لأنه لون يتسع للجميع ولا بد أن يكون أساس بناء العمل، وتبني عليه جميع الألوان والعناصر وهو اللون المفضل لملهمته، فهو يؤمن بأن المبدع لا بد أن يكون له ملهمة ولو افتراضية أو وهمية، فالإبداع يُستدعى من الإلهام ولا يُملى من الخارج على المبدع أو يحدد له مسار ليبدع في حدوده، فالموضوعات المحددة من وجهة نظره لا تخرج عن كونها صنعة، أو حرفة، أو حتى أعمالاً مدرسية، أو سمها ما شئت ولكنها ليست فنًا خالصًا، فإحساس الفنان هو قائدة في جميع أعماله والإبداع لا يُستدر ولا يُستحلب بموضوعات تملى إملاء أو تفرض قسرًا، وتعامله مع الألوان كتعامله مع البشر... فالبشر ألوان والألوان بشر... يحب منهم أناسًا ويبعد أناسًا، ويُظهر منهم من يشاء في أعماله ويخفي منهم من لا يرغب حتى من مرسمه ومجموعة ألوانه، والفنان الحقيقي من وجهة نظره صاحب مشروع كامل إنساني وفكري وفني لا يتجزأ... ويعجب من امتهان الفن لأجل مسابقة أو جائزة أو حتى موضوعات محددة من الغير، فالفن إحساس يشي بعمق فكر صاحبه وتمكنه الفني وحضور حلوله الفنية والتقنية ليبدع شيئًا مختلفًا عن غيره ملتصقًا بالفنان نفسه محملاً بصدق مشاعر وجودة منتج، والعمل الفني الصادق كاشف لمكنونات مبدعه وإحساسه ويوضح عمق ثقافته من سطحيتها بما يطرحه وبجودة رموزه وعناصره وموضوعات مشروعه الفني.. كل هذه القناعات وأكثر تحضر معه دائمًا في كل مكان وزمان وجعلت من مرسمه عالمًا حالمًا مليئًا بعوالم من الإبداع وتفاصيل صغيرة يهتم بها ليعيش أجواءه التي يعشق وينغمس في ألوانه وينشر إبداعه على أنغام الموسيقى التي يتراقص بفرشاته على سطح اللوحة لينسج مقطوعات لونية في أعماله، ومع حلول الصباح أنهى عمله الأخير ضمن مشروعه القادم الذي عمل عليه كمجموعة فسيفسائية واحدة بأعمال متنوعة ولكنها ضمن نسيج مشروع متكامل فإيمانه وقناعته بأن الضوء الساطع يظهر بألوان الطيف المتعددة متحدة في حزمة واحدة لتظهر ساطعة جلية وتؤدي دورها في ظهور الضوء... خرج من مرسمه بخطى متثاقلة إلى مقر عمله ليبدأ رحلة أخرىفي جدال مستمر ومتجدد مع زملاء العمل الذي يرون أن ما يقوم به ضربًا من الجنون.. وهل الفن إلا شيء من جنون؟ بينما هو يرى وبقناعة تامة أن الفن حالة لا تبرر ولا تعلل ولكنها تُعاش بكل صدق وإحساس وهو إلهامُ يبعث نورك الداخلي بإبداع للخارج.